من التاريخ

دفن الأجساد الطاهرة


الشيخ عباس القمي
 لما رحل عمر بن سعد عن كربلاء وتوجه نحو الكوفة، خرج قوم من بني أسد كانوا نزولًا بالغاضرية إلى الحسين (عليه السلام) وأصحابه رحمة اللّه عليهم - بعد ما بلغهم رحيل عمر بن سعد - فصلّوا عليهم ودفنوا الحسين (عليه السلام) حيث قبره الآن، ودفنوا ابنه عليّ بن الحسين الأصغر (عليه السلام) عند رجليه ، وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صرعوا حوله مما يلي رجلي الحسين (عليه السلام) وجمعوهم ودفنوهم جميعًا معًا، ودفنوا العباس (عليه السلام) في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن‏ .
وقال ابن شهرآشوب بعد ذكره لدفنهم : وكانوا يجدون لأكثرهم قبورًا ويرون طيورًا بيضًا .


وذكر الشيخ المفيد رحمه اللّه في كتابه الإرشاد أسماء شهداء أهل البيت ثم قال بعده: وهم كلّهم مدفونون مما يلي رجلي الحسين (عليه السلام) في مشهده، حفر لهم حفيرة وألقوا فيها جميعًا وسوي عليهم التراب إلّا العباس بن عليّ (عليه السلام) فإنّه دفن في موضع مقتله على المسناة بطريق الغاضرية، وقبره ظاهر وليس لقبور إخوته وأهله الذين سميناهم أثر وإنمّا يزورهم الزائر من عند قبر الحسين (عليه السلام) ويومئ إلى الارض التي نحو رجليه بالسلام عليهم وعلى عليّ بن‏ الحسين (عليهما السّلام) في جملتهم ويقال إنّه أقربهم دفنًا إلى الحسين (عليه السلام).
فأما أصحاب الحسين (عليه السلام) رحمة اللّه عليهم الذين قتلوا معه فإنهم دفنوا حوله ولسنا نحصل لهم أجداثًا على التحقيق والتفصيل إلا أنا لا نشك أن الحائر محيط بهم، رضي اللّه عنهم وأرضاهم وأسكنهم جنات النعيم‏ .
يقول المؤلف: لا ينافي قول الشيخ مع القول بأنّ لحبيب بن مظاهر والحر بن يزيد، قبرًا مستقلًا ومدفنًا مستقلًا لأنّ قوله ذلك ناظر إلى أغلب الشهداء لا كلّهم.


وفي كامل البهائي: أنّ عمر بن سعد لعنه اللّه أقام يوم عاشوراء وغده إلى وقت الزوال ووكل جمع من المشايخ والمعتمدين على الإمام زين العابدين (عليه السلام) وبنات أمير المؤمنين (عليه السلام) وسائر النساء وكنّ جميعهنّ عشرين امرأة ، وكان لزين العابدين (عليه السلام) في ذلك اليوم اثنان وعشرون سنة و لمحمد الباقر (عليه السلام) أربع سنين وكان كلاهما في كربلاء فحفظهما اللّه تعالى.
فلما سار عمر بن سعد إلى الكوفة ، وصل جمع من بني أسد وهم قوم رحّل إلى كربلاء، فرأوا تلك الحالة، فدفنوا الحسين (عليه السلام) وحده ودفنوا عليّ بن الحسين (عليه السلام) عند رجليه، والعباس عند الفرات في المكان الذي قتل فيه، وحفروا لسائر الشهداء حفرة فدفنوهم معًا، ودفن الحر بن يزيد في موضعه الذي قتل فيه، دفنه أقرباؤه، ولا يعلم قبور الشهداء إلا بالجملة والقدر المتيقن أنّ الحائر محيط بهم‏ .
وقال الشيخ الشهيد في كتابه الدروس بعد ذكر فضائل أبي عبد اللّه (عليه السلام) : وإذا زاره ، فليزر ولده عليّ بن الحسين وهو الأكبر على الأصح وليزر الشهداء وأخاه العباس والحرّ بن يزيد.
وهذا الكلام ظاهر بل صريح في كون قبر الحر بن يزيد معروفًا في عصر الشيخ الشهيد، وموصوفًا بصفة الاعتبار عنده، و هذا يكفينا في هذا المقام.


أعلم قد ثبت في محله أنّه لا يلي أمر المعصوم إلّا المعصوم وأنّ الإمام لا يغسله إلّا الإمام ولو قبض إمام في المشرق وكان وصيه في المغرب لجمع اللّه بينهما، وهذا يوافق الأحاديث الصحيحة التي عند علمائنا الإمامية، بل هو جزء من أصول المذهب، فالقول بدفن قبيلة بني أسد للحسين (عليه السلام) يشير إلى ظاهر الأمر لكنّ الواقع هو مجي‏ء الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى كربلاء وتولّيه دفن أبيه.
كما صرح بهذا إمامنا الرضا (عليه السلام) في احتجاجه على الواقفية، بل يستفاد من حديث (بصائر الدرجات) المروي عن الجواد (عليه السلام) أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان حاضرًا عند دفن الحسين (عليه السلام) وكذلك أمير المؤمنين والحسن وعليّ بن الحسين وجبرئيل والروح والملائكة التي نزلت في ليلة القدر.
 وفي المناقب أنّ ابن عباس رأى النبي (صلى الله عليه وآله) في منامه بعد قتل الحسين (عليه السلام) وهو مغبر الوجه، حافي القدمين، باكي العينين، وقد ضم حجز قميصه إلى نفسه (أي جميع أطراف ثوبه) و هو يقرأ : {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ } [إبراهيم : 42] وقال (صلّى اللّه عليه وآله) : إنّي مضيت إلى كربلاء والتقطت دم الحسين من الأرض وهو ذا في حجري، وأنا ماض أخاصمهم بين يدي ربّي.
وفي رواية سلمى أنها قالت: دخلت على أمّ سلمة وهي تبكي، فقلت لها : ما يبكيك؟.
قالت : رأيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في المنام وعلى رأسه ولحيته أثر التراب، فقلت: ما لك يا رسول‏ اللّه مغبرًّا؟.
قال : شهدت قتل الحسين آنفًا .


وفي رواية اخرى عن الصادق (عليه السلام) قال : أصبحت يومًا أمّ سلمة (رضي اللّه عنها) تبكي، فقيل لها : ممّ بكاؤك ؟.
فقالت : لقد قتل ابني الحسين الليلة، وذلك أنني ما رأيت رسول اللّه منذ مضى إلّا الليلة فرأيته شاحبًا، كئيبًا، فقالت:  قلت : ما لي أراك يا رسول اللّه شاحبًا كئيبًا؟.
قال : ما زلت الليلة أحفر القبور للحسين وأصحابه عليه و(عليهم السّلام)‏ .
وفي الجامع الترمذي‏، والسمعاني‏، أنّه : رأت أمّ سلمة النبي (صلى الله عليه وآله) في المنام والتراب على رأسه (فقالت) فقلت: ما لك؟ .
فقال : وثب الناس على ابني فقتلوه وقد شهدته قتيلًا الساعة.
وفي رواية أخرى أنّه (صلى الله عليه وآله) قال : فرغت من دفن الحسين وأصحابه.
والمعروف أنّ الأجساد الطاهرة بقيت على الأرض ثلاثة أيام لم تدفن، ونقل عن بعض الكتب أنها دفنت يوم الحادي عشر، وهذا بعيد جدًّا لأنّ عمر بن سعد كان ذلك اليوم في كربلاء لأجل دفن أجساد أصحابه الخبيثة، وقد هجر أهل الغاضرية ليلة عاشوراء تلك المنطقة خوفًا من ابن سعد، والظاهر عدم جرأتهم في الرجوع بهذه السرعة.
وروي في مقتل محمد بن أبي طالب عن الباقر عن أبيه عليّ بن الحسين (عليهما السّلام) أنّه قال : إنّ الناس كانوا يحضرون المعركة ويدفنون القتلى فوجدوا جونًا بعد عشرة أيام تفوح منه رائحة المسك‏ .
ويؤيد هذا الكلام ما روي في تذكرة السبط أنّه : كان زهير بن القين قد قتل مع الحسين (عليه السلام) وقالت امرأته لغلام له : اذهب فكفن مولاك، فذهب فرأى الحسين (عليه السلام) مجردًا فقال : اكفن مولاي وأدع الحسين (عليه السلام) لا واللّه ، فكفنه ثم كفن مولاه في كفن آخر .
ويظهر من رواية الشيخ الطوسي في الأمالي عن الديزج الذي جاء لتخريب قبر الحسين (عليه السلام) بأمر المتوكل ، أنّ بني أسد جاءوا ببارية جديدة وفرشوها تحت الحسين (عليه السلام) ودفنوه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة