خطبة السّيدة زينب عليها السلام
أربع خطب أساسية هي التي نقلتها كتب التاريخ لنا عن الإمام زين العابدين والسيدة زينب وأم كلثوم وفاطمة بنت الحسين عليهم السلام، ومن خلالها نستطيع أن نجد التنوع في كيفية الخطاب مع وحدة الحفاظ على محاور التوجيه والموعظة، وبالرغم من أنه لا يوجد تنسيق مسبق للحديث ومفرداته فيما بين الخطباء إلا أننا في النتيجة نحصل على ما يشبه التكامل بين تلك المفردات.
نستطيع أن نلحظ جملة من الأفكار الأساسية التي ركزت عليها السيدة زينب عليها السلام في خطبتها الكوفية، وهي أول خطبة لها وأول خطبة - على الإطلاق - في الكوفة من جهة أسارى أهل البيت عليهم السلام لذلك تكتسب أهمية خاصة لهاتين الجهتين: فمن تلك الأفكار التي ركزت عليها في خطابها لهم:
1/ فضيحة التفاصل بين العواطف والعمل وأن المبالغة في البكاء من دون تحمل مسؤولية لا ينفع.
2/ فضيحة التظاهر بحسن الإيمان والولاء والانطواء في المقابل على مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف، والصدر الشنف، وملق الإماء، وغمز الأعداء أو كمرعى على دمنة أو كفضة أو كقصة على ملحودة ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم وفي العذاب أنتم خالدون.
3/ وضع جريمة مقتل الحسين عليه السلام في حجمها العظيم، وأنها ليست مجرد قتل رجل ما بيد السلطة، وإنما هي تمتد للاعتداء على رسول الله صلى الله عليه وآله شخصياً، فكبده صلى الله عليه وآله هو الذي فري ورأسه في الحقيقة هو الذي قطع وبُري وأسرته وكرائمه وحرائره هي التي سبيت لقد سبيتم رسول الله بسبي نسائه وعياله.
4/ فهل يكفي في ذلك دمعة باردة؟ أو أنّة خافتة؟ لقد جئتم بها شوهاء صلعاء سيئة المظهر هي من الضخامة مثل طلاع الأرض (مثلما طلعت عليه الشمس).
5/ بل إنها في هذا تؤكد في أول إثبات تاريخي على أنه قد مطرت السماء دمًا، تفاعلاً مع هذه المصيبة وتعظيمًا لما حصل على أثرها، وهي بذلك تصيب عصفورين بحجر واحد؛ تثبت الواقعة تاريخياً حتى لا يتم إنكارها، وتثبت درسها وتفاعل الكون معها.
وأما نص الخطبة فقد نقلها ابن أعثم عن خزيمة الأسدي قائلاً: ونظرت إلى زينب بنت علي رضي الله عنه يومئذ ولم أر خفرة قط أفصح منها كأنها تنطق عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس، ثم قالت: الحمد لله وصلواته على أبي محمد رسول الله وعلى آله الطاهرين الأخيار، أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختل والخذل، أتبكون؟! فلا رقت لكم دمعة، إنما مثلكم كمثل (الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون وتنتحبون! إي والله فابكوا كثيرًا واضحكوا قليلاً، كل ذلك بانتهاككم حرمة ابن خاتم الأنبياء وسيد شباب أهل الجنة غداً وملاذ حضرتكم ومفزع نازلتكم ومنار حجتكم ومدرة سنتكم، ألا ساء ما تزرون، وبعداً لكم وسحقًا، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وتوليتم بغضب الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة، أتدرون ويلكم يا أهل الكوفة أي كبد لرسول الله صلى الله عليه وآله فريتم وأي دم له سفكتم وأي حريم له ورثتم وأي حرمة له انتهكتم؟! (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (*) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) لقد جئتم بها خرقاء شوهاء طلاع الأرض، أفعجبتم إن أمطرت السماء دمًا ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون، فلا يستخفنكم المهل ولا يحفزه البدار، ولا يخاف عليه فوت الثأر، كلا! إن ربك لبالمرصاد.
وأما الخطبة الثانية فخطبة فاطمة بنت الحسين:
فإنه يظهر من السيد ابن طاووس في اللهوف أنها من حيث الترتيب كانت للسيدة فاطمة بنت الحسين عليها السلام والتي عبر عنها بالصغرى - في مقابل الكبرى وهي بنت علي عليهما السلام - فقد قال: وروى زيد بن موسى قال: حدثني أبي، عن جدي عليهما السلام قال: خطبت فاطمة الصغرى عليها السلام بعد أن ورد من كربلاء (إلى الكوفة)، فقالت:
ونشير أولاً إلى أفكارها الأساسية التي وردت فيها ثم نتبعها بالنص الذي ذكره السيد ابن طاووس رحمه الله فإنها تطرقت في هذه الخطبة إلى الأفكار التالية:
1 ـ التأكيد على مفهوم الحمد لله بهذا المقدار (عدد الرمل والحصى وزنة العرش للثرى..) وأن ما حصل هو مما يحمد الباري عليه، ثم التذكير بموضوع عقائدي وهو أن الله سبحانه قد أخذ العهد من الناس على الإيمان بوصية علي بن أبي طالب وأنه من يخالف ذلك فهو يخالف ما أنزل الله، وأن هذا المجتمع الكوفي بدلاً من أن يدفعوا عن أمامهم الضيم في حياته انتهى به الأمر إلى أن يقتل شهيداً في بيت من بيوت الله عز وجل مع وجود جماعة مسلمة اللسان مؤمنة الشعار لكنها ضعيفة التحقيق والعمل لذلك الشعار، وإن مقتل ذريته من الحسين عليه السلام وأنصاره هو امتداد لذلك القتل، ونلحظ هنا ملاحظة لن تكون إلا في مجلس يزيد بن معاوية بعد نحو من شهر من الزمان سيتطرق لها بالتفصيل الإمام زين العابدين وهو إعادة تعريف الناس بأمر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومزاياه، فهنا أيضاً نلاحظ السيدة فاطمة تطرقت لهذا الجانب بنحو من التفصيل بالقياس إلى حجم خطبتها.
2/ كذلك نلاحظ أنها مثلما فعلت عمتها زينب قد صدمت المجتمع الكوفي بتحميله المسؤولية في قتاله الحسين وأصحابه، وأنهم في ذلك قد سقطوا في امتحان الابتلاء الذي ابتلاهم الله به، فينما كان المفروض أن يتبعوا آل بيت النبي حيث جعل الله فيهم وعاء علمه وحكمته وجعلهم حجته على أهل أرضه، فإذا بهم يعدون عليهم ويرون قتلهم حلالاً وأموالهم نهبًا، كل ذلك افتراء على الله سبحانه ولكن الله خير الماكرين.
وهنا للمتأمل أن يلاحظ أن كلمات السيدة فاطمة بتواليها وترادفها هي أشبه بالمطارق التي تنزل على تلك الرؤوس واحدة بعد الأخرى، بل في تنوع الأساليب في هذا فهي تارة تقرر، وأخرى تتساءل، وثالثة تستنكر فانظر إليها كيف تتكلم هنا " أتدرون أية يد طاعنتنا منكم؟! وأية نفس نزعت إلى قتالنا؟! أم بأية رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا؟! قست والله قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطبع على أفئدتكم، وختم على أسماعكم وأبصاركم".
وأمّا النص الذي ألقته عليها السلام فهو هكذا:
"الحمد الله عدد الرّمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده وأؤمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله، وأن ذريته ذبحوا بشط الفرات بغير ذحل ولا ترات! اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود لوصيه علي بن أبي طالب عليه السلام، المسلوب حقه، المقتول بغير ذنب - كما قتل ولده بالأمس -ـ في بيت من بيوت الله، فيه معشر مسلمة بألسنتهم، تعساً لرؤوسهم، ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته، حتى قبضته إليك محمود النقيبة، طيب العريكة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه اللهم فيك لومة لائم ولا عذل عاذل، هديته يا رب للإسلام صغيراً، وحمدت مناقبه كبيراً، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك صلواتك عليه وآله حتى قبضته إليك، زاهداً في الدنيا، غير حريص عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك، رضيته فاخترته وهديته إلى صراط مستقيم.
أما بعد: يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء، فإنا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه ووعاء فهمه وحكمته وحجته على أهل الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا الله بكرامته وفضلنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله على كثير ممن خلق تفضيلاً بيناً.
فكذبتمونا، وكفرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالاً وأموالنا نهباً، كأننا أولاد ترك أو كابل، كما قتلتم جدنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت، لحقد متقدم، قرّت لذلك عيونكم، وفرحت قلوبكم، افتراء على الله ومكراً مكرتم والله خير الماكرين.
فلا تدعونّكم أنفسكم إلى الجذل بما أسلتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا، فان ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا لعظيمة (ِإلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (*) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) تباً لكم، فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأن قد حل بكم، وتواترت من السماء نقمات، فيسحتكم بعذاب ويذيق بعضكم بأس بعض ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنه الله على الظالمين.
ويلكم أتدرون أية يد طاعنتنا منكم؟! وأية نفس نزعت إلى قتالنا؟! أم بأية رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا؟! قست والله قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطبع على أفئدتكم، وختم على أسماعكم وأبصاركم وسوّل لكم الشيطان وأملى لكم وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.
فتباً لكم يا أهل الكوفة، أي ترات لرسول الله صلى الله عليه وآله قبلكم وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب عليه السلام جدي وبنيه وعترة النبي الأخيار صلوات الله وسلامه عليهم، وافتخر بذلك مفتخركم فقال:
نحن قتلن علياً وبني علي بسيوف هندية ورماح
وسبينا نساءهم سبي تُركِ ونطحناهم فأي نطاح
بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب افتخرت بقتل قوم زكاهم الله وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا، فأكظم واقعِ كما أقعى أبوك، فإنما لكل أمرئ ما كسب وما قدمت يداه، أحسدتمونا – ويلكم - على ما فضلنا الله؟!
فما ذنبنا إن جاش دهراً بحورنا، وبحرك ساج لا يواري الدَّعامصا
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
عدنان الحاجي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ شفيق جرادي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد صنقور
الشيخ محمد مصباح يزدي
حسين آل سهوان
أحمد الرويعي
أسمهان آل تراب
حسين حسن آل جامع
أحمد الماجد
فريد عبد الله النمر
علي النمر
حبيب المعاتيق
زهراء الشوكان
الشيخ علي الجشي