علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. حسن أحمد جواد اللواتي
عن الكاتب :
طبيب وكاتب ومترجم، صدر له كتاب (المصمم الأعظم: قراءة نقدية في كتاب التصميم العظيم للبروفيسور ستيفن هوكنج)، كما ترجم الرواية الفلسفية (البعد الضائع في عالم صوفي) للمؤلف محمد رضا محمد اللواتي ونشرت الرواية في الولايات المتحدة الأمريكية. Maitham6@gmail.com

اليقين بين الفيزياء والفلسفة (2)


د. حسن أحمد جواد اللواتي

هل تضيع المعلومات من النظام المغلق؟

من المتعارف لدى الفيزيائيين أن الدالة الموجية هي أكمل تعبير ممكن للمعلومات عن النظام المغلق المعزول وأن هذه المعلومات تظل محفوظة من خلال تلك الدالة الموجية وتطوراتها في معادلات شرودنجر، وقد يطرأ على بالك أنك قد أتلفت النظام المغلق من خلال عمليات معينة (كأن تقوم بحرق ورقة مكتوب عليها معلومات معينة) وبالتالي أضعت المعلومات تمامًا (في رماد الورقة)، ولكن الحقيقة هي أن المعلومات لم تضع ويمكن (نظريًّا) أن نسترجعها.

معارك هوكنج-سسكند
احتدم جدل بين عالمين كبيرين في الفيزياء النظرية وسمي بمعارك هوكنج-سسكند (ستيفن هوكنج وليونارد سسكند)، ويرجع الجدل إلى مسألة أنه عندما تسقط الجسيمات في الثقب الأسود فإنه يفترض (حسب المتعارف) أنها تفقد دوالها الموجية أي أنها تفقد المعلومات التي تعبر عن خصائصها وتصبح كورقة تم محو محتواها بالكامل، ومع أن هوكنج بنفسه قد اكتشف أن الثقوب السوداء ليست سوداء بالكامل بمعنى أنها تبث مقدارًا من الأشعة (يسمى بأشعة هوكنج) إلا أنه ارتأى أن تلك الأشعة لا تحمل تلك المعلومات التي كانت للجسيم الساقط في الثقب الأسود، في حين تمسك ليونارد بالمبدأ ورفض قبول فقدان المعلومات حتى وإن لم يكن يستطيع إيجادها عمليًّا، وكما يدور ببالك الآن فإن هذا الموضوع لا يزال جدليًّا ولا نعرف الكثير عنه حتى هذه اللحظة.

اليقين في المباحث العقلية والفلسفة
بخلاف العلوم الطبيعية التي تتعامل مع أمور في الواقع الخارجي مباشرة فإن العلوم العقلية تتعامل مع الأمور عبر الذهن، ولأن طبيعة التفاعل بين الأشياء في الخارج مختلفة عن طريقة تفاعلها في الذهن فإن قدرة البحث العقلي على إنتاج اليقينيات مختلفة عن قدرة البحث التجريبي للأشياء في الخارج. تبتني العلوم العقلية على مسألتين أساسيتين، الأولى هي البديهيات العقلية والثانية هي المنطق الأرسطي.

أ. البديهيات
فأما البديهيات العقلية فهي أمور يعلم ويقطع العقل بصحتها بمجرد تصورها أو تصور أطرافها، ولا يحتاج العقل إلى أكثر من تصورها وإدراكها ليقطع بصحتها، بل إن نفس محاولة إنكار بعض البديهيات أو محاولة إثبات خطئها يعتمد بالدرجة الأولى على صحة تلك البديهيات ويثبت أن تلك البديهيات صحيحة، ومن أوضح البديهيات العقلية قاعدة استحالة اجتماع النقيضين واستحالة ارتفاعهما معًا التي تقضي أنه يستحيل اجتماع أمرين متناقضين أو ارتفاعهما معًا (هناك تسعة شروط لتحقق التناقض بين أمرين، أو بعبارة أخرى لا بد من تحقق تلك الشروط التسعة بين الأمرين حتى يمكن القول أنهما متناقضان)، وكذلك قاعدة العلية أو السببية التي تقضي أن لكل حادث علة (سبب) وأنه متى ما تواجد السبب (العلة) فإن وجود النتيجة (المعلول) أمر ضروري وحتمي ولا يتخلف ولا يختلف، وكذلك متى ما تم العثور على المعلول فإن وجود وحضور علته أمر ضروري ولا مناص منه، وبعبارة أخرى فإنه لا يمكن انفكاك العلة عن المعلول أو انفكاك المعلوم عن العلة، وكما تلاحظ فإن هاتين القاعدتين صحيحتان مهما حاولنا أن ننكرهما لأن نفس إنكارهما يستلزم ثبوتهما، ففي القاعدة الأولى إن أردت القول بأن (المتناقضين يجتمعان) فإنك ملزم بقبول نقيض تلك العبارة وهي (أن المتناقضين لا يجتمعان) لأن نفس القاعدة تجبرك على قبول نقيضها، وفي القاعدة الثانية (قاعدة العلية) فإن نفس محاولة إثبات خطئها يستبطن القول أن البرهان سيكون علة لمعرفتنا بأن قاعدة العلية غير صحيحة، وبالتالي فإننا نستخدم قاعدة العلية لنبرهن على خطئها! وهو إثبات ضمني لها. وهناك بديهيات أخرى يمكن القطع بصحتها بمجرد تصورها مثل (الكل أكبر من جزئه) وأن (صرف الشيء لا يتثنى ولا يتكرر) وأن (المركب محتاج لأجزائه).
الجدير بالذكر أن هناك بديهيات أخرى ليست واضحة البداهة للجميع منذ الوهلة الأولى، فقد يستغرق المرء فترة من التأمل فيها حتى يدرك بداهتها أو قد لا يحكم ببداهتها حتى مع التأمل والتفكير وتصبح تلك القضية أمرًا متنازعًا عليه فتكون بديهية لدى شخص وجدلية لدى شخص آخر مثل قضية (الواحد الحقيقي لا يصدر عنه إلا الواحد)، وهناك نوع آخر من البديهيات يطلق عليه بالبديهيات العملية (لا تتعلق بالأمور النظرية وإنما بما ينبغي ولا ينبغي عمله) من قبيل أن (العدل حسن وأن الظلم قبيح) وفي هذا المثال الأخير بالذات ظهرت نظريات ترى أن هذه الأمور العملية ليست بديهية إطلاقًا وإنما هي نتاج توازن اجتماعي لمجموعات من الكائنات الحية وتفاعل الصقور والحمائم فيها، وهذا لا يعنينا في هذا البحث لأننا لسنا بصدد مناقشة البديهيات العملية والحكمة العملية وإنما بصدد مناقشة البديهيات العقلية في الحكمة النظرية.

ب. المنطق الأرسطي والقياس البرهاني
الأمر الآخر الذي تبتني عليه العلوم العقلية هو المنطق الأرسطي الذي يستخدم القياس البرهاني للوصول من المقدمات إلى النتائج من خلال ما يسمى (بالحد الأوسط)، ففي كل قياس منطقي هناك مقدمة صغرى ومقدمة كبرى ونتيجة، وكل من المقدمتين يحتوي على ما جزء يسمى بالحد الأصغر (للمقدمة الصغرى) أو الحد الأكبر (للمقدمة الكبرى) وجزء مشترك موجود في كلي الحدين ويسمى بالحد الأوسط، وبسبب اشتراك الحد الأوسط في المقدمتين يتم ربط الموضوع (الحد الأصغر) في المقدمة الصغرى بالحكم أو المحمول (الحد الأكبر) في المقدمة الكبرى، ومثاله كالآتي:
المقدمة الصغرى: هذه الأداة من الحديد
المقدمة الكبرى: كل حديد يتمدد بالحرارة (لاحظ أن الحديد هنا هو الحد الأوسط المشترك بين المقدمتين)
النتيجة: هذه الأداة تتمدد بالحرارة (ربطنا الحد الأصغر من المقدمة الصغرى “هذه الأداة” بالحد الأكبر من المقدمة الكبرى “تتمدد بالحرارة” لاشتراكهما بالحد الأوسط الذي عمل كرابط بينهما).
هناك أنواع عديدة من القياس ولكن الهدف منها هو نفسه وهو الخروج من المقدمات إلى النتائج، وطبعا لا ننسى قول المناطقة من أن (النتيجة ستكون يقينية بمقدار يقينية المقدمات)، أي أنه إن كانت المقدمات مشكوكًا فيها فإن النتيجة ستكون تبعًا مشكوكًا فيها بنفس المقدار وهو ما يعبرون عنه بقولهم أن (النتيجة تتبع أخس المقدمات)، فالقياس بنفسه يوفر لنا الصورة المنطقية أو الهيكل الذي سيتم استعماله من خلال المقدمات لإنتاج النتيجة ولكنه لا يتكفل بصحة ودقة المضمون في المقدمات، لذلك نرجع ونتساءل عن العوامل التي تمنح القياس الصحيح قدرته إنتاج نتيجة يقينية، أو بعبارة أخرى ما الذي سيجعلنا نعتقد أن الربط بين الموضوع والمحمول كان صحيحًا ويقينيًّا؟
يجيب المنطق الأرسطي بأن اليقين بثبوت المحمول للموضوع إنما يتم عبر قاعدة استحالة اجتماع النقيضين، فعندما نقول أن كل حديد يتمدد بالحرارة فإن ذلك يشمل هذه الأداة الحديدية أيضًا، وسيكون تناقضًا أن يجري حكم التمدد على الكل ولا يجري على فرد من ذلك الكل، ولذلك فإنه متى ما صحت المقدمة الكبرى فإن النتيجة صحيحة يقينًا لكون المقدمة الصغرى جزءًا من الكبرى وما يجري على الكل يجري بالضرورة على فرد منه.
بمعرفة العلة الحقيقية لثبوته له، وقد تكون هذه العلة نفس الموضوع حيث يكون المحمول ذاتيًّا للموضوع أو قد تكون شيئًا آخر.

العلاقة بين البحث التجريبي والبحث العقلي
مما سبق يترتب أن هناك إمكانية لبناء بحث عقلي مبني على البديهيات اليقينية بالإضافة إلى قواعد المنطق للوصول إلى بعض النتائج اليقينية العقلية والتي قد تستفيد من نتائج المشاهدة والملاحظة والتجربة للواقع الخارجي ولكن لا تبتني عليها كأساس ذاتي للمعرفة وإنما كأصول موضوعة يوكل أمر التحقيق فيها إلى علومها المختصة بها، فإن أخبرنا الفيزيائي أن الماء يغلي عند درجة مئة مئوية في ظل ظروف طبيعية معينة وأحرزنا نحن بالمشاهدة أن ما بين أيدينا هو عينة من الماء في نفس الظروف الطبيعية فإننا نستطيع أن نحكم أن تلك العينة ستغلي عند درجة مئة مئوية حتى قبل أن ننفذ ذلك عمليًّا، ولكن إن ثبت أن الفيزيائي كان مخطئًا في ما قاله لنا أو أن ما ظننا أنه عينة ماء تبين أنه عينة من الخل مثلًا فإن الخطأ هنا ليس بسبب الأدوات العقلية المستخدمة في القياس وإنما بسبب خطأ المقدمات المستقاة من الأصول الموضوعة.
الجدير بالذكر هنا أن نفس عملية التجربة المستخدمة في العلوم الطبيعية معتمدة على القواعد العقلية الأساسية التي ذكرناها سابقًا (استحالة اجتماع النقيضين وقاعدة العلية) لأنه بدون تلك القواعد فإن التجربة لا تكون مثمرة في إنتاج المعرفة الكلية، لاحظ أن التجارب إنما تتعامل مع الجزئيات فقط أي أنها تتعامل مع عينات محددة من الأشياء (Samples/Specimens/observables)  ولا تستطيع أن تشمل كل العينات الموجودة في الكون من تلك الأشياء ولكن تلك التجربة تسعى لإنتاج معرفة كلية تشمل كل شيء مشابه لتلك العينات التي اختبرتها ورصدتها، وهذه القفزة من الجزئيات إلى الكليات أو من المحدود إلى العموم إنما يتم عبر القواعد العقلية التي تمكننا من تعميم الأحكام على ما لم نختبره سابقًا ولكن لتشابهه مع ما اختبرناه ولاحظناه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد