علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. حسن أحمد جواد اللواتي
عن الكاتب :
طبيب وكاتب ومترجم، صدر له كتاب (المصمم الأعظم: قراءة نقدية في كتاب التصميم العظيم للبروفيسور ستيفن هوكنج)، كما ترجم الرواية الفلسفية (البعد الضائع في عالم صوفي) للمؤلف محمد رضا محمد اللواتي ونشرت الرواية في الولايات المتحدة الأمريكية. Maitham6@gmail.com

البساطة والتركيب بين الغِنَى والفقر رؤية علمية وفلسفية (2)


د. حسن أحمد جواد اللواتي

ما أهمية هذا البحث؟
قد يتبادر إلى ذهنك أن هذا البحث من الترف الفكري الذي لا ثمرة له ولا يخدم أي غرض عملي، ولكن الحقيقة أبعد ما يكون عن هذا التصور، فهذا البحث له أهمية قصوى وشديدة في عالم اليوم كما كان له أهمية قبل عدة قرون في تاريخ الفكر والفلسفة، ودعنا نوضح ذلك.
إن من أهم إشكالات الفكر الإلحادي على مسألة حاجة الكون لخالق وموجد هو أن الكون معقد بدرجة كبيرة وأن أي خالق وموجد له يجب أن يكون بدرجة لا تقل تعقيدًا عن الكون الذي سيوجده، وفي هذه الحالة فإن ذلك الخالق والموجد المعقد والمركب بنفسه محتاج إلى خالق وموجد، وبالتالي فإن الإجابة على (من خلق الكون؟) ليست بافتراض خالق وموجد لأنها ليست إجابة على الإطلاق(5) وإنما هي مجرد استبدال لحلقة محل حلقة في نفس السلسلة التي سنسأل فيها عمن خلق الخالق والموجد، ويرجع السؤال كما كان، وطبعًا لاحظت أن السبب في المشكلة هو أن الإجابة كانت غير ناجحة لأنها افترضت أن الخالق والموجد معقد بنفس درجة الكون أو أكثر تعقيدًا منه وهذا ما سيجعل الخالق والموجد في منظور الفيلسوف أكثر فقرًا وحاجة من الكون الذي سيوجده، إنها فعلاً ليست بالإجابة وهو ما نتفق فيه مع دوكينز وبقية الملاحدة.
إن افتراض كون الخالق أكثر تعقيدًا من مخلوقه قائم على المنظور الوظيفي للبساطة والتعقيد والذي يفرض علينا أن يكون الموجود الأعلى رتبة (الخالق) أكثر تعقيدًا من الموجود الأدنى رتبة (المخلوق) ولكن هذا المنظور لا يصلح في هذه المسألة لأننا نعالج مشكلة الإيجاد وما يتناسب معها هو المنظور الثاني الذي يرى أن البساطة أغنى وأقوى وأعلى رتبة وجودية من التركيب والتعقيد، وعلى ذلك فتكون الإجابة هي أن الكون المركَّب والمعقَّد مخلوق ومعلول لموجود بسيط بل غاية في البساطة التي ليس فيها أي نوع من أنواع التركيب(6)، وبنفي التركيب عن الموجود البسيط ينتفي القول أيضًا بكونه حادثًا (الحادث هو الموجود بعد العدم) وبهذا تنتفي الحاجة للسؤال عن علة الخالق والموجد؛ لأن الموجود الحادث فقط هو الذي يحتاج للعلة الموجدة وليس الموجود غير الحادث.

«بسيط الحقيقة كل الأشياء»
طرحنا سابقًا منظورين للتعامل مع البساطة والتركيب من وجهة نظر الفقر والغنى، ولعلنا أخفينا في جعبتنا منظورًا ثالثًا اشتهر به الشيخ الرئيس علي ابن سينا في قاعدة (بسيط الحقيقة كل الأشياء، وليس بشيء منها)، وفي هذا المنظور لا يكتفي ابن سينا بأن يجعل الموجود البسيط أغنى من ناحية حاجته للوجود فقط بل يجعله أغنى حتى من الناحية الوظيفية أي أن الموجود إن كانت حقيقته بسيطة كل البساطة، فليس فقط أنه لا يحتاج إلى علة توجده لكونه غنيًّا بالذات وموجودًا بذاته، وإنما كذلك هو قادر على تحقيق كل الوظائف التي تستطيع الموجودات المعقدة والمركبة أن تحققها، بل هو قادر عليها بشكل أرقى وأفضل وأكمل، وهذا بالطبع أمر لم نعتد أن نسمعه في حياتنا اليومية فما تعودنا عليه أننا إن أردنا جهازًا أفضل فلا بد أن يكون أكثر تعقيدًا من الأجهزة الأخرى وليس العكس، فكيف يتسنى لنا القول أن (بسيط الحقيقة) أفضل في أداء الوظائف بشكل أفضل من (مركب الحقيقة)؟ الجواب يكمن في فهمنا الدقيق لمفهوم (بسيط الحقيقة).

لو تأمَّلت بعمق في مفهوم (بسيط الحقيقة) لوجدت أن البساطة الحقيقية تمثل الكمال المطلق، لأن أي شيء أقل من الكمال المطلق سيكون مركبًا من (الكمال والنقص) تمامًا مثل الكأس المملوء نصفه بالماء فهو مركب من (ماء ولا-ماء) ولكن لو ملأته بالماء فإنك بذلك تزيل منه النقص وتجعله أكمل، وكل شيء أقل من الكمال المطلق فهو ليس ببسيط الحقيقة لأنه مركب (من كمال ولا-كمال)، ولكن بسيط الحقيقة ليس به أي تركيب لذا فهو كمال مطلق من كل الجهات ومن كل زوايا النظر سواء كان النظر إلى الكمالات الخارجية أو الكمالات التي يمكن تعقلها وتخيلها فليس به أي جانب نقص يمكن تخيله أو تعقله، ولو كان به أي نقص يمكننا إدراكه بالعقل أو الخيال أو الحس لما كان بسيط الحقيقة، وهكذا يرينا ابن سينا أن الغنى المطلق هو في البساطة الحقيقية وليس كما تخيل علماء الطبيعة (ومن ورائهم أقطاب مدرسة الإلحاد) أن الغنى هو في التركيب والتعقيد.
نكتفي بهذا المقدار من استعراض البساطة والتركيب في عين الفقر والحاجة والغنى في الوجود حيث استعرضنا نظرة علماء الطبيعة لها ثم استعرضنا زاويتين للنظر إلى الموضوع وانتهينا بقاعدة (بسيط الحقيقة كل الأشياء) والتي بالطبع لم نفصل فيها هنا إلا بمقدار الحاجة للموضوع فهي قاعدة فلسفية ضخمة غفل عنها الكثير من المفكرين مما أدى إلى قصور في نظرتهم للبساطة والتركيب والفقر والغنى في الوجود.

  ــــــــــــــ
هذا هو الإشكال الأبرز الذي يطرحه ريتشارد دوكينز في كتابه (وهم الإله) وكذلك طرحه من خلال مقابلة له مع الفيزيائي ستيفن واينبرغ.

Hassan Khalifeh, [30.07.18 12:31]
  يقسم الفلاسفة التركيب إلى الأنواع التالية: التركيب بالأجزاء المقدارية، التركيب من الوجود والماهية، التركيب من المادة والصورة، والتركيب من الوجدان والفقدان. ومن دون الدخول في التفاصيل الفلسفية لأنواع التركيب فإنه يكفينا القول أن التركيب قد يكون خارجيًّا (يمكن إدراكه بالحواس الخمس) أو قد يكون عقليًّا بحيث يمكننا أن نقسم الشيء إلى أجزاء عقلية من دون تقسيمه ماديًّا في الخارج، والفلاسفة ينفون عن الخالق كل أنواع التركيب الخارجية والعقلية والتخيلية بحيث إنه بسيط بما لا يمكن تصور أي جزء له إطلاقًا لا خارجًا ولا عقلاً.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد