علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

الأديان بين المقارنة والمقاربة (1)

 

حيدر حب الله
تمهيد
مقارنة الأديان مسارٌ لا يستهدف تسجيل نقاط، بل يرى أنّ فهم الأديان بطريقة المقارنة والمقاربة يعيد إنتاج فهمنا للدين بطريقةٍ جديدة ومختلفة.
لن أتحدّث هنا ببحث مستقلّ وشامل، بل سأقدّم خواطري من وحي تخصُّصي الجامعي في مجال مقارنة الأديان الإبراهيميّة؛ لتحفيز القارئ على أهمّية هذا التخصُّص، وخاصّةً طلاب العلوم الدينيّة.
ثمّة جَدَلٌ في مشروع مقارنة ومقاربة الأديان، لا أقلّ من زاويتين:
سؤال الإمكان في مقارنة الأديان
الزاوية الأولى: في إمكان المقارنة وجدوائيتها العامّة.  وهذا بحثٌ فلسفي، ينشأ من أنّ فكرة المقارنات لا معنى لها؛ لأنّ كلّ شيء هو في ظرفه الزمكاني لا يمكن أن يُقارَن بغيره الذي هو في ظرفٍ آخر، ومن ثمّ فكلّ شيء هو هو، والفرديّة سمةٌ خالصة قاطعة فيه، وهو كلٌّ لا يتجزأ، ومن هنا لا معنى للتفضيل أو عكسه، بل المقارنات هي التي تلحق بفكرنا أكبر الضرر، انطلاقاً من نزعة أصالة الجزئي، التي اشتهرت منذ عصر النهضة، بل قبله، مع الفلسفة الأُوكاميّة (نسبةً إلى أحد أبرز فلاسفة ما يُسمّى بالقرون الوسطى، وليام الأُوكامي المتوفّى عام 1347م)، وإلى يومنا هذا. ومن ثمّة فليست هناك تصوُّرات عالميّة، بل دائماً البناءات الفكريّة هي محلّية أو قومية، وهذا ما يشبه الفرق بين المذهب الكلاسيكي في الأدب، والذي يقوم على فكرة الإنسان الكلّي الأنموذج، والمذهبي الرومنطيقي، الذي ظهر منذ القرن الثامن عشر، وتراجع منذ أواسط القرن العشرين، والذي يقوم على فرديّة كلّ فرد، وأنّ الفرد نوعٌ، واعتبار نقاط تميّزه عن غيره هي الأصل والأساس، ومن ثمّ يجب التخلّي عن فكرة النوع الكلّي.
زاوية الرؤية هذه يعارضها كثيرون اليوم، بل الاتجاه الفكري الذي بدأ بالنشاط الواسع خاصّة مع بدايات القرن العشرين يميل نحو تأصيل الفكر المقارن في الأديان والحضارات والفلسفات والثقافات؛ تارةً بهدف أداتي ينشُد الكشف عن (الفلسفة العالميّة الكونيّة)، وهي العناصر المشتركة بين الفلسفات، أو (الدين العالمي) بهذا المفهوم، أو (الثقافة العالميّة)؛ وأخرى بهدف الكشف عن الروح الواحدة الكامنة في كلّ تجلّيات الأديان أو الفلسفات، وهو ما تعبِّر عنه مدرسة (الحكمة أو الفلسفة الخالدة)، التي ترى أنّ تعدُّد الأديان أو الفلسفات ليس إلاّ تجلّيات وظهورات لحقيقةٍ واحدة كامنة خلفها، فالتعدُّد في الفلسفة العالميّة حقيقيٌّ، لكنْ إلى جانبه وحدة مستهدَفَة بالاكتشاف؛ تمهيداً لخوض حوارٍ عالميّ، ولكنّه في الحكمة الخالدة تعدُّدٌ شكليّ ظهوريّ، وليس في الحقيقة سوى شيءٍ واحد ودينٍ واحد، فتوجّه الفلسفة الخالدة توجّه نحو الجوهر، يشبه توجّه شلايرماخر وإيزوتسو نحوه عندما كانا يريان أن اللغة والمفاهيم ترجمات للجوهر، وليستا عينه.
إنّ ثورة المعلوماتيّة، ودخولنا عصر القرية الكونيّة، لم يعُدْ يسمح لنا بتجاهل الآخر، فقد ولّى ذلك الزمن، فقد صار الآخر ملاصقاً لنا في كلّ شيء، ومن ثمّ لم يعُدْ يمكن بناءُ حياةٍ عمليّة وتواصليّة ومعرفيّة صحيحة دون وعي الآخر وفهمه.


الجانب العملاني من مقارنة الأديان
إنّ الجانب الآخر من علم مقارنات الأديان هو الجانب العملاني، ففي هذا العلم تنشأ عناصر الالتقاء، وتظهر مكوِّنات الجمع. وهذا الظهور، أو في المقابل: هذا التلاشي لمفهوم التباين الحادّ بين الديانات، يمكنه أن يكون بناءً لحوارٍ أدياني عالمي، لا يستهدف نشر السلام في العالم فحَسْب، وهو بالتأكيد له دَوْرٌ عظيم في نشر السلام؛ إذ لا سلام في العالم من دون سلام الأديان والمذاهب، كما يقول المفكِّر اللاهوتي السويسري المعاصر المثير للجدل هانس كونج، في كتابه (الإسلام رمز الأمل، القِيَم الأخلاقيّة المشتركة للأديان)… بل هو أيضاً يستهدف تكوين جبهة دينيّة عريضة، يمكنها التصدّي بشكلٍ فاعل أكثر لأزمات العصر الحديث والعواصف الأخلاقيّة والروحيّة والنفسيّة ـ بل والمادّية ـ التي تهدّد الكائن الإنساني اليوم على الأرض، بل تهدّد الأرض نفسها وخيراتها وطاقاتها.
فالأديان يمكنها ـ باللقاء الحقيقي القائم على فتح باب المقارنات والمقاربات، تمهيداً لوَعْي الذات والآخر وَعْياً أعمق ـ اكتشاف الجبهة الموحَّدة الكامنة فيها، ثم تحمّل مسؤوليّاتها اليوم في قضايا العالم، وهذه حاجةٌ أديانيّة وإنسانيّة معاً:


أ ـ أمّا أنّها حاجةٌ أديانيّة؛ فلأنّ الأديان مطالبةٌ بلعب دَوْر في إصلاح الإنسان، وهي بتحمّلها مسؤوليّات الاشتغال على أزمات العصر الحديث تقوم بدَوْرها، ممّا يجعلها فاعلةً في حياة البشر، ويحول دون تلاشيها. والكلّ يعرف أنّ هناك مراهنات كثيرة على دخولنا مرحلةً برزخيّة خلال القرون الأخيرة، سيخرج فيها الإنسان من عصر الدين (الميتافيزيقا) إلى عصرٍ جديد، تماماً كما خرج ـ برأي هؤلاء ـ من عصر الديانات البدائيّة جدّاً، مع السحر والشعوذة (مثل: الشامانيّة Shamanism)، نحو الأديان الناضجة التي أتَتْ مع الأنبياء وأمثالهم… ثمّة مراهنات واشتغالات على أن يتمّ الانتهاء بشريّاً من مرحلة الدين خلال مائة أو ألف عام، وهناك مَنْ يبذل جهوداً في هذا الصدد. والأديانُ بحضورها في قضايا الإنسان الحديث تُثبت ذاتها، وتحوّل هذه المراهنات إلى وَهْمٍ، أمّا لو تراجع حضورها عبر هذه الجبهات العريضة، واشتغلت بذاتها الضيّقة، فإنّ هذا سوف يعطي فرصةً قويّة للتيار الآخر لتعزيز فرص تلاشي الأديان تماماً.
ومن الواضح لنا جميعاً أنّ الاشتغال على الانتهاء من (الزمن الديني) لم يكن وليس نزهةً؛ فقد عرف الغرب الحديث ـ منذ القرن الثامن عشر وإلى اليوم ـ تأسيس بدائل للدين في الحياة: من القانون الوضعي بوصفه بديلاً عن الشريعة، إلى (الأخلاق العلمانيّة) بوصفها بديلاً عن (الأخلاق الدينيّة)، وهناك الكثير من المقارنات بين هاتين المدرستين من الأخلاق؛ لإثبات تفوُّق الأخلاق العلمانيّة على الدين وقدرتها على بناء صفاء داخلي وسلام عالمي…، إلى العلوم الإنسانيّة وما أفرزَتْه من علومِ وفنونِ المهارات وبناء الذات، والتي حلّت محلّ العمل الديني على بناء الإنسان وكينونته، وخاصّة مع المدرسة الوجوديّة، التي بلغت أَوْجها مع سارتر(1980م) وهايدغر(1976م) وغيرهما، بل الطبيعة نفسها، والتي كانت دائماً مستمسك الأديان للعبور نحو الله. ها هو العلم الحديث ـ عبر الداروينيّة وفيزياء الكمّ وغيرها ـ يشكِّك في هدفيّة الطبيعة وعناصر الغائية في الخَلْق، ليقول بأنّ كلّ ما حصل هو مجرّد مسارات صمّاء غير واعية، ومن ثم يهزّ برهان النظم وبرهان الهداية وغيرها من البراهين…


إنّ مقارنات الأديان مشروعٌ عظيم لتكوين جبهةٍ موحّدة، لا للبناء على خيال الماضي، والمراهنة على أوهامٍ تلاشت بفعل تطوّر العلوم، بل للبناء على حقائق تثبت اليوم أنّ تشييء الإنسان (جعله شيئاً)، والفراغ الروحي والأخلاقي الذي بات يعيشه في عصر الحداثة وما بعد الحداثة، يجرّان نحو المعنويّة، فهل ستتمكّن الأديان من أن تقدّم الأنموذج الأفضل للحياة المعنويّة والأخلاقيّة للبشر عبر جبهةٍ عريضة من التنسيق والإصلاحات أو أنّها ستفشل في هذا، وستكون بنفسها عنصر اضطراب وتوتّر وقلق يَفْقِد الإنسانُ الحديثُ معها هويّتَه الأصيلة ـ بحَسَب التعبير الهايدغري ـ أو يغرق في الاغتراب عن ذاته ـ بحَسَب الأدبيات الهيجليّة والماركسيّة ـ؟
هذا كلّه يعني أنّ الجبهة الأديانيّة الموحّدة حاجةٌ للأديان نفسها وبقائها ونجاحها وتقدّمها أمام جبهة اللادينيّة القائمة اليوم بأطيافها المتعدّدة. ونصيحتي المتواضعة أن لا يغترّ أبناء الديانات بمفهوم الفطرة، ويراهنوا عليه، وهو مفهومٌ لا أنفيه البتّة، بل بالعكس، قناعتي أنّ الإنسان أمام الله كقطعة الحديد أمام المغناطيس، قد تبتعد تارةً لكنّها سرعان ما تنجذب، فحركتُها منحنيةٌ؛ لأنّ هذا هو تكويننا؛ فالفيض الإلهي كوَّن فينا هذا الإيمان الطبيعي، كما يقول كارل رانر(1984م)؛ لكنّ اغترار أهل الديانات بالفكرة يمكن أن يبعث فيهم الكسل والشعور بالغرور، وأنّهم لا يمكن أن يزولوا أو ينتهوا. لهذا يجدر التنبُّه لهذا الأمر.
ب ـ وأمّا أنّها حاجةٌ إنسانيّة؛ فلأنّ عصرنا الحاضر بل كلّ العصور تؤكّد بأنّ الدين فاعلٌ قوي في السلام والحرب، ومن ثمّ فلبناء تفاهم عالمي وصلح أو سلام عالمي لا بُدَّ أن يكون للدين دَوْرٌ. فالإنسان اليوم بحاجة لدَوْر ديني موحّد من كبرى القضايا التي تؤرّقه في العالم؛ لأنّ نضوج القرارات الدينيّة في العالم اليوم يمكنه أن يساعد البشر على تخطّي المآزق التي وقعوا فيها، أو يعانون منها، كائناً مَنْ كان السبب في وقوعهم فيها.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد