علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

الأديان بين المقارنة والمقاربة (2)

 

حيدر حب الله
هل تؤثّر مقارنة الأديان على فهم الإنسان دينَه الخاصّ؟!
الزاوية الثانية: في تأثيرات المقارنة على فهم الدين الشخصي.  وأعني بهذه الزاوية ما يتّصل بشكلٍ خاصّ بالأديان الإبراهيميّة. وأحاول هنا أن يكون مخاطَبي هو الإنسان المسلم بشكلٍ أكبر.
إنّ فكرتي المتواضعة تقوم على عناصر متعدّدة، سأشير في هذه الخواطر لاثنين منها فقط:
1ـ المبدأ الهرمنوطيقي ـ المعترف به في مذاهب التفسير الإسلامي، وخاصّة في علم أصول الفقه ـ القائل بأنّ فهم النصّ لا يكون بالنصّ وحده فقط، بل بجماع فهم النصّ بوصفه بنية لغويّة وفهم السياق ـ بالمعنى الواسع للكلمة ـ الذي جاء النصّ فيه، فلا نهدر في فهمِ النصِّ النصَّ نفسَه ونتجاهل قدرته على تبيين ذاته، كما لا نهدر قدرة السياقات الزمكانيّة وخصوصيّات المؤلِّف أو المخاطَب وغير ذلك في فهم روح النصّ ورسالته.
يُعْرَف عن المرجع الديني السيد البروجردي(1961م) أنّه كان يرى أنّ فهم نصوص أهل البيت النبويّ لا يكون إلاّ من خلال فهم الفضاء الفكري والثقافي والاجتماعي الذي كان يعيشه جمهور المسلمين ـ من غير الشيعة ـ في القرون الثلاثة الأولى؛ لأنّ نصوص الأئمّة جاءت في هذا السياق، وتنظر إلى هذا المسار القائم، وتستهدف تصويبه.
هذه الفكرة بعينها يكتشف المسلمُ الدارسُ لمقارنات الأديان الإبراهيميّة حجمَ حضورها، لتشكِّل عنده أساساً جديداً من أُسُس التفسير القرآني، بعيداً عن ما يقوله غيرُ واحدٍ من الباحثين المعاصرين، من أنّ فهم الذات الدينيّة ليس ممكناً دون فهم الآخر الديني؛ إذ هذا هو الجهل بالدين نفسه، وهو ما بلغ فيه ماكس مولر(1900م) ـ الذي يُعَدّ أحد رموز مقارنة الأديان ـ بلغ فيه الأَوْج عندما كان يردِّد في مشروعه المعروف في المقارنات مقولة: إنّ مَنْ لا يعرف إلاّ ديانةً واحدة فهو لا يعرف أيّ ديانة.
المسيحيّة واليهوديّة بوصفهما سياقاً حافّاً مفسّراً للنصّ القرآني
وفقاً لهذا كلّه، عندما نفهم قصص الخلق والأنبياء والماضين في (الكتاب المقدّس) نستطيع ـ عبر المقارنة مع نصّ القرآن الكريم ـ أن نفهم بشكلٍ أفضل رسالة الآيات القرآنيّة، وسيُثري ذلك فرضيّاتنا التفسيريّة؛ لأنّنا سوف نندهش عندما نلاحظ ما أضاء عليه النصّ القرآني في سياق ما هو قائمٌ للقصّة في نصوص الكتب المقدّسة السابقة. فلماذا أضاء على هذه النقطة أو تلك دون هذه أو تلك؟ ولماذا عدّل هذه النقطة أو تلك؟ بل قد تفهم لماذا استحضر هذه القصّة دون تلك… بهذه الطريقة سوف تظهر لك امتيازات النصّ القرآني عن سائر النصوص وخصائصه في تناول القضايا التي تناولتها الكتب السابقة، وستدرك بشكلٍ أجلى هذه الخصائص، وتتمكَّن من مقاربة الموضوع بطريقةٍ أفضل.


هكذا الحال في قضايا العقيدة الدينيّة والأخلاق والشريعة والمفاهيم اللاهوتيّة الحسّاسة. فبالمقارنة تدرك أنّ التوراة حمَّلت حواء مسؤوليّة ما حدث، بينما نجد القرآن أكثر مَيْلاً لتحميل آدم المسؤوليّة. وهل هناك ربطٌ بين قصّة المائدة في القرآن وواقعة العشاء الربّاني الذي يُعَدّ سرّ أسرار الكنيسة إلى اليوم؟ هل يريد القرآن الغمز مثلاً من فكرة العشاء الربّاني لصالح تكوين تصوُّر آخر عن قضيّة المائدة؟ ومثل هذه اللطائف أكثر من أن يُحْصى. وعندما يستخدم القرآن توصيفات معيَّنة للنبيّ عيسى مثلاً لها دلالاتها في الثقافة المسيحيّة، فماذا يقصد؟ فقد وصفه بالمسيح، وهذا التعبير في الثقافة المسيحيّة ـ وهي مستهْدَفة أيضاً بالخطاب القرآنيّ بالتأكيد ـ ينتقل بنا إلى فكرة (المسيا) أي المخلِّص، ومن ثم فلماذا استخدم القرآن هذا التعبير الذي يختلف عن تعبير (عيسى)، فعيسى غير المسيح بالمفهوم اللاهوتي، ولهذا يؤمن اليهود بعيسى، لكنّهم لا يرَوْنه المسيح (المسيا)؛ لأنّ المسيا تعبيرٌ مأخوذ من العبريّة (ماشيح)، وهو المسيح، أي الممسوح بالدهن المقدّس بوصف ذلك تنصيباً له على عرش مُلْك بني إسرائيل، وبهذا عندما صُلب عيسى (وفقاً للرؤية السائدة بين المسيحيّين) أكَّد اليهود رؤيتهم بأنّه لو كان هو المسيح لكان هو المخلِّص، والمفروض أنّه قد صُلب دون أن يخلِّص شعب إسرائيل من القهر وحكم الرومان وغيرهم، ودون أن يحقِّق لهم الوعد النهائي بتسليمهم الأرض المقدَّسة! ومن هنا نجد أنّ فكرة المخلِّص انتقلت في اللاهوت المسيحي من الخلاص الدنيوي السلطاني الذي تفهمه اليهوديّة (وكثير من المسلمين يفهمون المهدويّة بهذا المعنى أيضاً تقريباً) إلى الخلاص الملكوتي، وتحرير الإنسان من الخطيئة الأولى، وجعله بالإيمان محلاًّ لفيض الله تعالى. فهل يريد القرآن الكريم وسط هذا كلّه أن يقرّ المسيحيّين على تصوُّرهم أنّ عيسى هو (المسيا) المخلِّص بمفهومٍ جديد له؛ أو أنّ هذا الأمر من باب أنّ هذه التسمية لها منطلقٌ آخر (أنّه كان يشفي من خلال المسح باليد)؛ أو أنّ هذا مجرّد مصاحبة لغويّة مع الآخر، فيستخدم القرآن التعبير الذي يستخدمه الآخر بحقّ تلك الشخصيّة، دون أن يحمل ذلك أيّ معنىً خاصّ، وبه نفهم أنّه يستهدف هنا بخطابه المسيحيّين، لا اليهود مثلاً؟
وهكذا استخدام القرآن (كلمة الله) بحقّ عيسى، وهو تعبيرٌ نعرف جميعاً أنّه بالغ الحساسية في اللاهوت المسيحي، من حيث إنّ مفهوم الكلمة مفهومٌ خطير جدّاً. وبإمكاننا اكتشاف خطورته في مطلع إنجيل يوحنّا، وهو المطلع المهمّ جدّاً في فضاء نظريّة اللوغوس اليونانيّة، والصادر الأوّل المتّحد. فلماذا استخدم القرآن هذا التعبير، وهو له دلالةٌ خطيرة جدّاً في اللاهوت المسيحي؟ هل قصد الموافقة أو المجاراة اللفظيّة فقط، أو له دلالةٌ أخرى؟


بل الأمر الأشدّ خطورةً هنا هو فهم أيٍّ من الطوائف المسيحية أو اليهوديّة كان يحاور القرآن الكريم؟ هل كان يحاور المسيحيّة الغربيّة (مسيحيّة روما)، أو المسيحيّة المشرقيّة، من اليعقوبيّة والنسطوريّة وأمثالها في الجزيرة العربيّة؟ صحيحٌ أنّ الانقسام الكبير النهائي والفاصل بين الكاثوليك والأرثوذكس (القرن الحادي عشر الميلادي)، ثمّ البروتستانت (القرن السادس عشر الميلادي)، لم يكن قد وقع في عصر نزول القرآن، لكنّ التشظّيات الأولى كانت قد وقعَتْ، وهي انقساماتٌ كبرى عرفتها المسيحيّة في ذلك الوقت، وأفرزتها وكشفت عنها المجامع المسكونيّة التي كانت قد وقعت منذ مطلع القرن الرابع الميلادي، وكذلك الجهود الدفاعية للردّ على مَنْ اتُّهموا بالهرطقة عبر ستّة قرون من حياة المسيحيّة إلى مجيء الإسلام، وتكوّنت فِرَق عظيمة، واتخذت فِرَق مهمّة بلاد الشرق موطنها بعد طردها من الكنيسة والمجتمع المسيحي المتمثِّل بروما. هنا من الضروري أن نفهم أنّ القرآن الكريم هل كان يخاطب عقائديّات روما أو كنائس شرقيّة كان على صلةٍ بها؟ وما هي عقيدة اليهود والنصارى في شبه الجزيرة في تلك الفترة؟ إنّ تحليل هذه القضيّة بعمقٍ ودقّة يساعد على فهم مرادات القرآن الكريم من جهةٍ؛ وعلى الدفاع عنه من جهةٍ أخرى؛ لأنّ بعض الانتقادات التي يوجِّهها القرآن لليهود والنصارى يعتبر اليهودُ والنصارى اليوم أنّها لا تعنيهم ولم تكن تمثِّلهم، ومن ثمّ تقع التباساتٌ كثيرة هنا، من نوع: ثالث ثلاثة، تحديد هويّة عُزَيْر، وهل هو عَزْرا الكاتب أو غيره؟ ومفهوم الأبوّة والبنوّة الذي يقدِّمه القرآن بالمعنى المادّي للكلمة، وغير ذلك.

 

بل دعوني أذهب أبعد من ذلك في تساؤلي: هل أنّ أهل الكتاب الذين وصفهم القرآن، وتعامل معهم وتحاور، هم أنفسهم أهل الكتاب الذين يعيشون اليوم في العالم بكلّ طوائفهم؟ هل يمكن الحديث عن وحدة حقيقيّة، بحيث نعتبر أنّ أولئك هم هؤلاء المعاصرون، أو أنّ التحوّلات التي طرأت بالخصوص على الفكر المسيحي ـ وخاصّة على بعض مذاهبه، كالبروتستانتيّة وبعض الكاثوليك ـ قد أحدثت تحوُّلات عميقة، بحيث لم تَعُدْ تسمح لنا باعتبار مَنْ تعامل معهم القرآن هم أنفسهم تماماً الذين نعايشهم نحن اليوم؟ هذه قضيّةٌ بالغة الخطورة، وخاصّة لناحية تطوُّر صياغة قضايا عقائديّة عندهم، من نوع التثليث وغير ذلك. لا أريد أن أُصدر أحكاماً الآن، لكنْ من الطبيعي لمَنْ يطّلع على حجم وحدّة التحوّلات أن يتريّث ويتأمّل في مجموع هذه الأمور، حتّى على مستوى التناول الفقهي لبعض القضايا، وإصدار تعميمات شرعيّة على أهل الكتاب، دون ملاحظة مدارسهم ومذاهبهم اليوم!
خلاصةُ الفكرة أنّ فهم الفضاء الديني في الأديان الإبراهيميّة من جهةٍ، والفضاء الديني في الأديان العربية غير الإبراهيميّة من جهةٍ أخرى، يساعدان على فهم النصّ القرآني واستنطاقه بطريقةٍ متنوّعة. ومن الضروريّ أن يكون فهماً نابعاً عن تخصُّص وتعمُّق، وعدم الاستخفاف بالموضوع بمجرّد مطالعة كتاب أو كتابين؛ فإنّ حجم التعقيدات والتموُّجات والاتجاهات والتحوُّلات في هذه الأديان واسعٌ جدّاً، لا يمكن البناء على معطيات مبتسرة أو منقوصة فيه.
ولا أريد أن أُعرِّج على التاريخ النقدي الإسلامي لليهوديّة والمسيحيّة، ومساهمات العلماء المسلمين، كابن حزم وابن تيميّة وابن قيّم الجوزية، وصولاً إلى كاشف الغطاء والبلاغي والصادقي الطهراني وغيرهم، في هذا المجال، وما هي الأخطاء التي وقعنا فيها خلال هذه المسيرة الطويلة من البحث النقدي؟ وما هي عناصر القوّة؟ فهذا في حدّ نفسه موضوعٌ مستقلّ ومثير. ومع الأسف نحن نقع في أخطاء فادحة في تناول هذه القضايا اليوم؛ بسبب قلّة وجود مختصّين بمجال دراسة الأديان الأخرى، ممّا يوجب في بعض الأحيان سخرية الآخرين بنا، تماماً كما يوجب سخريتنا بهم عندما يتناولوننا دون معرفة متخصِّصة، فالأديان ليست مقالاً صحفيّاً ينتهي الإنسان من تصفُّحه بيومٍ أو يومين.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد