علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

الأديان بين المقارنة والمقاربة (3)

 

حيدر حب الله
تساؤلٌ عابر حول مقولة (الإسرائيليّات) في النقد الحديثي الإسلامي
2ـ هذا الأمر يجرّ لإعادة النظر بفكرة الإسرائيليّات. وأرجو أن يتفهَّمني القارئ هنا؛ إنّ فكرة الإسرائيليّات بوصفها عنواناً لتصفية تيارات فكريّة أو نصوص حديثيّة في الدائرة الإسلاميّة سيفٌ ذو حَدَّيْن؛ فمَنْ يُجري مقارنات واسعة بين القرآن والإسلام والديانات الإبراهيميّة الأخرى يُدرك حجم التقارب المذهل بينها، في كثير من قضايا التاريخ والعقائد، وفي كثير من قضايا الشريعة بين اليهوديّة والإسلام. وفي ظلّ هذا التشابه اللافت كيف يحقّ لي أن أقوم بتصفية حديثٍ منسوب إلى المعصوم بمجرَّد تشابهه مع موروثٍ يهوديّ أو مسيحيّ؟ عندما لا يكون هناك نسبة تشابه بين القرآن واليهودية والمسيحية فمن حقّي أن أُشكِّك، لكنْ عندما يكون التشابه كبيراً، والقرآن يشترك في كثيرٍ من النقاط ـ بما فيها قصص الأنبياء ـ مع العهد القديم بالخصوص، ويترك قصصاً أخرى، لا نعرف هل تركها لكذبها أو لعدم أهمّيتها عنده…؟ في ظلّ هذا الوضع ما هو المبرِّر المنطقي لاتّهام حديثٍ بالوضع لتشابهه مع موروثٍ أدياني آخر؟
لو كنّا نتكلّم من فضاء ظاهراتي تاريخي علماني بعيد عن الأصول الدينيّة لرُبَما قيل بإمكان أنّ النبيّ محمداً قد أخذ من كتب اليهود والنصارى ووضع في كتابه، وربما يغدو ممكناً أيضاً أنّ كلّ ما نجده مشتركاً في الحديث مع المزاج اليهودي والنصراني فهو مأخوذٌ منهم، ومن ثمّ فهو موضوعٌ، لكنْ لمّا كنّا نتحدث من منطلق إسلامي، كيف أُبرِّر إسقاط حديث لأنّه يشبه ما في التوراة؟ ألم تشبه عشرات القصص والنقاط الأخرى في القرآن الكريم ما في الكتاب المقدّس؟
هذا كلُّه بعيداً عن الفكرة التي قدَّمها في آخر حياته ـ بوصفها إثارةً ـ الشيخُ محمد هادي معرفة(1427هـ)، من تصحيح نسبة الكتاب المقدّس الموجود بين أيدينا اليوم (التوراة والإنجيل خاصّة) إلى الوحي؛ استناداً لمعطيات تاريخيّة وقرآنيّة معاً.


هنا نحن أمام ضرورة إعادة النظر في هذه القضيّة، من خلال:
أـ إنّ المنقولات غير المسندة إلى معصومٍ إذا احتمل أنّ مصدرها غير المعصوم جاء احتمال الإسرائيليّات فيها، بمعنى أنّ التابعي الفلاني لو نسب شيئاً ما دون أن يرفعه إلى النبيّ، واحتملنا ـ من خلال مقاربات تاريخيّة ـ أنّه أخذه من بعض اليهود وتراثهم، فهنا لنا أن نطرح احتماليّة المصدر اليهوديّ، ومن ثم لا يكون الحديث حجّةً. ولكنّ هذا لا يُثبت أنّه كاذب واقعاً؛ لاحتمال صدق المصدر اليهودي في ما ينقل، كما صدق في نقولاتٍ أخرى، أشار إليها القرآن الكريم.
ب ـ أن يسند الراوي المنقولات (الإسرائيليّة) إلى معصومٍ. والسؤال هناك كيف عرفنا أنّها موضوعة؟
يوجد هنا أساسان:
الأساس الأوّل: إنّنا أخضعناها لنقد متني أكّد لنا أنّها غير منتسبة إلى النبيّ، وفي الوقت عينه وجدناها في كتب اليهود والنصارى. وهنا يمكن إسقاط هذا الحديث واعتباره مجعولاً؛ لا لأنّه يشبه ما في كتب أهل الكتاب، بل لأنّه قام الدليل المضموني النقدي ضدّه.
الأساس الثاني: أن لا نجد فيها مانعاً متنيّاً، بل هي سليمةٌ في المتن، لكنّنا وجدناها تشبه الموروث اليهودي والنصراني، فهنا لا مبرِّر لتهمة الاسرائيليّات؛ لأنّ مجرّد التشابه ـ بعد اطّلاعنا عبر مقارنة الأديان على نسبةٍ كبيرة من التشابه ـ لا يثبت الوضع في الحديث؛ لكنّه يطرحه بوصفه احتماليّةً ممكنة.
وهذا ما ينتج أنّ مفهوم الاسرائيليّات بنفسه ليس مضعِّفاً للحديث؛ بل المضعِّف هو النقد المتني على الحديث، والذي يثبت استبعاد صدوره عن المعصوم أو عدم واقعيّة مضمونه، أو فقُلْ: كون الحديث بطريقةٍ يشتمل فيها على خصوصيّات تنفي إمكان نسبته إلى النبيّ، وفي الوقت عينه ترجِّح أخذه من مصادر أهل الكتاب. وبهذا كلّه تبدو كلمة: الموروث الشيعي الحديثي أغلبه إسرائيليّات، أو الموروث السنّي الحديثي كذلك…، تبدو هذه الكلمة بلا مضمون؛ إذ مَنْ يرصد تشابهات الأديان والنصوص الدينيّة الإبراهيميّة يُدْرِك أنّ مثل هذه الجملة غير ممكنة الإثبات عمليّاً.


كلمةٌ أخيرة
أكتفي بهذه الخواطر، لأختم بـ:
أوّلاً: تجديد الدعوة التي أطلقتُها عام 2014م (انظر: إضاءات في الفكر والدين والاجتماع 4: 598 ـ 599) إلى الاشتغال على تأسيس جامعات كبرى في العالم العربيّ مختصّة بالأديان والمذاهب بفروعها المختلفة، وخاصّةً الإبراهيميّة منها، وما يرافق ذلك أو يتبعه من تأسيس مراكز دراسات جادّة في هذا الصدد، وإصدار نشريّات علميّة رزينة، وأعمال فكريّة مرموقة.

ثانياً: لا نريد لمشروع دراسة الأديان والمذاهب أن يسير على خطى الجَدَل الطائفي والمذهبي، أو يساهم في نشر التعصُّب البغيض، بل نستهدف في عالم اليوم معرفة الآخر وفهمه، وقراءته من زواياه المختلفة، السلبيّة والإيجابيّة؛ بهدف الارتقاء بالذات وبالآخر معاً لمرحلةٍ أفضل من الوعي والفهم والعلاقة، لا تُهْدَر فيها الحقيقة ولا تموت أمام المجاملات، وفي الوقت عينه لا تغيب فيها الوجوه المشرقة للآخر أو نخسر الاستفادة من تجاربه.
فالمسيحيّة ـ على سبيل المثال ـ خاضَتْ قبل الجميع تجربة الحداثة، وواجهت لقرونٍ عصوراً بالغة الخطورة، من عصر الإصلاح الدينيّ إلى عصر الثورة العلميّة، إلى عصر الأنوار، إلى عصر الحداثة، إلى ما بعد الحداثة… وتجربتها أكبر من أن توصف، فلماذا لا نستفيد من تجاربهم؛ لنتجنَّب الأخطاء التي وقعوا فيها، أو لنأخذ بعناصر القوّة التي اكتسبوها بفعل التجارب المتراكمة؟ هذا هو السؤال. بل بمقتضى ملاحظتي المتواضعة أجد أنّ المسيحيّة واليهوديّة بإمكانهما اليوم كثيراً أن تستفيدا من نتاجات العلماء المسلمين؛ فإنّ لديهم الكثير من الأفكار التي يمكنها فكّ عُقَد لاهوتيّة في أكثر من مكانٍ.
هذا هو المطلوب، وليس المطلوب مقارنات أديانيّة بهَدَف الاحتجاج والجَدَل وتصفية الحسابات ورفع مستوى الاضطراب والقلق في بلداننا، وإنْ كان لكلّ أحدٍ الحقّ في أن يدافع عن قناعاته، وأن يخوض مقاربات نقديّة للآخر.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد