سياحة ثقافية

منازل الركب الرضويّ من المدينة المنوّرة إلى خراسان (2)

 

مجلة شعائر
نيسابور وحديث «سلسلة الذهب»:
خرج الركب الرضويّ من فارس إلى المفازة الكبيرة، مُتّجهاً نحو خراسان.. فدخل نيسابور: وكانت تُعرف بـ(أبْرشهر)، وهي مدينة سهلة، خرّجت من العلماء كثرة، ونشأ بها على مرّ الأيّام من الفقهاء مَن شُهر اسمه.
ولمّا دخلها الإمام عليّ الرضا عليه السّلام، كان لأهل نيسابور لقاءات طيّبة معه، لعلّ أهمّها اللقاء الذي فاض به عليهم بحديث «سِلسلة الذَّهَب».
وفي (تاريخ نيسابور) أنّ الإمام الرضا عليه السلام، دخلها فشقّ سوقها وعليه مظلّة لا يُرى من ورائها، فتعرّض له الحافظان أبو زرعة الرازي، ومحمّد بن أسلم الطوسي، ومعهما من طلبة العلم والحديث ما لا يُحصى، فتضرّعا إليه أن يريهم وجهه ويروي لهم حديثاً عن آبائه، فاستوقف الركبَ وأمَر غلمانه بكفّ المظلّة، وأقرّ عيون تلك الخلائق برؤية طلعته المباركة... والناس بين صارخٍ وباكٍ ومتمرّغٍ في التراب، ومقبّلٍ لحافر بغلته، فصاحت العلماء: معاشرَ الناس أنصِتوا، فأنصَتوا، واستملى منه الحافظان المذكوران.
فقال: (حدّثني أبي موسى الكاظم، عن أبيهِ جعفر الصّادق، عن أبيه محمّد الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن أبيه الحسين، عن أبيه عليّ بن أبي طالب [ عليهم السلام ]، قال: حدّثني حبيبي وقرّةُ عيني رسولُ الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم، قال: حدّثني جبريلُ، قال: سمعتُ ربَّ العزّةِ يقول: لا إلهَ إلاّ اللهُ حِصني، فمَن قالها دَخلَ حصني، ومَن دَخلَ حِصني أَمِنَ مِن عذابي).
ثمّ أرخى السّترَ وسار، فعُدّ أهل المحابر والدّوى الذين كانوا يكتبون، فأنافوا على عشرين ألفاً».


وفي (توحيد) الشيخ الصدوق، جاء في تتمّة الخبر، عن إسحاق بن راهويه، قال: «فلمّا مرّتِ الراحلة نادانا: بشروطها، وأنا من شروطها».
أي أنّ من لوازم صِدق التوحيد الإقرار للمعصومين الاثني عشر من أهل البيت عليهم السلام، بأنهم أئمّة من قِبل الله عزّ وجلّ على العباد، مفترضو الطاعة عليهم.
ورُوي أن الإمام الرضا عليه السلام، لمّا دخل نيسابور نزل محلّةً يُقال لها «الفروينيّ»، وكانت هناك عينٌ قد قلّ ماؤها، فأقام عليها مَن أخرج ماءها، واتّخذ من خارج الدرب حوضاً ينزل إليه بالمراقي إلى هذه العين، وهي العين المعروفة بـ«عين كَهْلان»، يقصدها الناس إلى يومنا هذا.
قرية الحمراء: وهي التي يُقال لها اليوم: «دِهْ سُرْخ». ولمّا قرُب منها، قيل له: «يا ابن رسول الله، قد زالت الشمس، أفلا نصلّي؟
فنزل عليه السّلام فقال: إيتوني بماء. فقيل: ما مَعنا ماء.
فبحث عليه السّلام بيده الأرض، فنبع من الماء ما توضّأ به هو ومَن معه.
قال الشيخ الصدوق: وأثره باقٍ إلى اليوم».
ومن قرية الحمراء إلى رباط سعد... ومنها تمضي القافلة تطوي الطريق حتّى تبلغ :
* سناباذ: لمّا دخل عليه السّلام سناباذ استند إلى الجبل الذي [ صارت ] تُنحت منه القُدور، فقال: «اللّهمّ انفَعْ به، وبارِكْ في ما يُجعَل فيه وفي ما يُنحَت منه».
ثمّ أمر عليه السّلام فنُحت له قدور من الجبل، وقال: «لا يُطبخُ ما آكُله إلّا فيها..».
فاهتدى الناس إليه من ذلك اليوم، فظهرت بركةُ دعائه فيه. ويقع هذا الجبل جنوب مدينة مشهد، ويعرف بـ «كُوهْسَنگى» -أي الجبل الصخريّ- ويُستفاد منه في كثيرٍ من الصناعات اليدوية الصخرية.
* طوس: يذكر بعض المؤرّخين.. أنّ المأمون حينما بلغه وصول الإمام الرضا عليه السّلام، إلى مدينة طوس فرح كثيراً، واطمأنّ إلى أنّ مؤامرته توشك أن تؤتي ثمارها. فأمر القوّاد وأمراء الجيش، والعلماء والفضلاء بالذهاب إلى طوس واستقبال الإمام على مشارف المدينة. فلمّا كان اللقاء، ترجّل الكثير منهم وأدّوا السّلام عليه، ثمّ أخذوا يقبّلون يديه ورِجليه، بعد ذلك خرجوا معه من طوس بكلّ إعزازٍ وإجلال. وما ترك الإمام عليّ الرضا عليه السّلام هذه المدينة حتّى كانت له فيها كرامات ومعاجز مشهودة. وبعد طوس يقف الرحل عند بستان حميد بن قحطبة وداره.
دار حميد بن قحطبة: ثمّ دخل دار حميد بن قحطبة الطائيّ، ودخل القبّة التي فيها قبر هارون الرشيد، ثمّ خطّ بيده إلى جانب قبر هارون، ثمّ قال: «هذه تُربتي وفيها أُدفَن، وسيجعل اللهُ هذا المكانَ مختلَفَ شيعتي وأهلِ محبّتي. واللهِ ما يزورني منهم زائرٌ، ولا يسلّم علَيّ منهم مسلّم.. إلاّ وجب له غفران الله ورحمته، بشفاعتِنا أهلَ البيت».
ثمّ استقبل القبلة فصلّى ركعات، ودعا بدعوات، فلمّا فرغ سجد سجدة طال مكثه فيها، ثم انصرف.
سرخس: قال بعض أهل نيسابور: «لمّا قدِم عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام نيسابور أيّام المأمون، قمتُ في حوائجه والتصرّف في أمره ما دام بها، فلمّا خرج إلى مرو شيّعته إلى سرخس، فلمّا خرج من سرخس أردت أن أُشيّعه إلى مَرو، فلمّا سار مرحلةً أخرج رأسه من العماريّة، وقال لي: يا أبا عبدالله، انصرفْ راشداً، فقد قمتَ بالواجب، وليس للتشييع غاية..».

 

في مدينة مرو: مرو مركز السلطة العباسية يومذاك، وهناك يكون المأمون بانتظار الإمام الرضا عليه السّلام وقد أحضره بظاهر الإكرام، ولكنّه يجيء به إلى خراسان كالأسير المُحتجَز، لينفّذ ما كان يهدف إليه.
ويُنقل أمران عند ورود الإمام الرؤوف عليّ الرضا عليه السّلام مدينة «مرو »:
الأول: روى المحدّث القمّي لقاءه عليه السّلام برجلٍ كان جمّالاً له عند توجّهه إلى خراسان، فلمّا أراد الرجل الانصراف، قال له: «يا ابن رسول الله، شرّفْني بشيءٍ من خطّك أتبرّك به. وكان الرجل من العامّة، فأعطاه المكتوب، وكان فيه هذه الكلمة له سلام الله عليه: (كُنْ مُحبّاً لآلِ محمّدٍ عليهم السّلام وإنْ كنتَ فاسقاً، ومُحبّاً لِمُحبّيهم وإن كانوا فاسقين)».
الثاني: الاستقبال المفتعَل الذي هيّأه المأمون لقدوم الإمام الرضا سلام الله عليه.. فلمّا وصل عليه السّلام إلى مدينة «مَرو» بالَغَ المأمون في إكرامه، ليُوهِم الناسَ أنّه استدعاه رغبةً في لقائه، وأنّه كان صادقاً مخلصاً في التنازل له عن الخلافة، ثمّ في إسناد ولاية العهد إليه. وقد كان ورود الإمام عليه السّلام إلى مرو سنة مائتين من الهجرة النبويّة المباركة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد