من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

التدقيق في تاريخ الطف


حيدر حب الله
هناك من يقول: إنّه إذا دقّقنا في تاريخ الطف (وكما فعله الشهيد المطهّري) على طريقة الموازين الفقهيّة، فلن يبقى من التاريخ شيء وسوف لن يتفاعل الناس مع الأحداث كتفاعلهم اليوم. ما هو رأيكم وتعليقكم؟
ليسمح لي السائل المحترم بأن أبدي أسفي وحرجي من القول بأنّ ممارسة النقد التاريخي والدعوة للتثبّت من وقائع كربلاء تاريخياً تستدعي عدم بقاء شيء من هذه الحادثة ليقال للناس ومن ثمّ ليستدرّ دمعتهم وبكاءهم! هل يُعقل أنّ مذهباً عريقاً كالتشيّع ـ بفرقه المتعدّدة من الإماميّة والزيديّة والإسماعيليّة وغيرهم ـ لم يتمكّنوا عبر هذا التاريخ من أن ينقلوا أعظم قصّة مأساويّة حصلت معهم في تاريخهم؟ 


أين كان إذاً العلماء والمؤرّخون والباحثون كلّ هذه المدّة، حتى إذا ما أعملنا معاول النقد السندي والتاريخي لن يبقى شيء معتمد يتركوه لنا يفي بأن نقصّه على الناس ليستدرّ دمعتهم؟! كيف نجحوا في نقل النصوص العقديّة والفقهية والأخلاقيّة وبأعداد هائلة ولم ينجحوا في هذا هنا؟! أرى هذا إمّا فضيحة أخجل من قولها أو أنّ ما نريد أن نستدرّ به دمعة الناس قد رفعنا سقفه ليتجاوز حدود عمل المؤرّخين ومنجزاتهم، فأحرجناهم ومن ثم أخرجناهم من دائرة الحكم على ما نقصّه على الناس. إنّني أعتقد بأنّ ما تركه المحدّثون الشيعة بمذاهبهم ومعهم المؤرّخون وعلماء الرجال والتراجم ـ إلى جانب ما تركه لنا الآخرون من المذاهب الأخرى في نصوص التاريخ والرجال والحديث ـ حول القضيّة الحسينية، يمكن أن يكون مفيداً جدّاً ونحصل منه على صورة موثوقة لهذا التاريخ الحسيني، حتى لو أعملنا معاول النقد التاريخي؛ فإنّ تظافر القرائن وتعدّد المصادر وكثرة الطرق وتعاضدها وتداول الموضوعات بشكل متنوّع ومختلف بين المذاهب المتعدّدة، من شأنه أن يوصلنا إلى مكان محمود، لكنّ بعضنا اليوم لم يعد يكفيه ما سيحصل عليه المؤرّخ بعد البحث التاريخي، ويراه قليلاً غير وافٍ بالقيام بعملية مبالغة أو غير مستجيب للمستوى القصصي الذي يريده هو، وإلا فلا يصحّ أن نقول بأنّ المحدّثين والمؤرّخين وعلماء الرجال الشيعة قد تركوا لنا واهتمّوا أعظم الاهتمام بقضايا فقهية وأخلاقية تفصيليّة أوصلوها إلينا بنحو الدقّة والتثبّت، أمّا في أعظم القضايا التاريخيّة لم نجد عندهم مثل هذا الاهتمام! ويكفينا في مجال التعرّف على السيرة الحسينية نصوص الزيارات التي يحظى بعضها بوثوق وتوثيق تاريخي وسندي جيّد، وهي تحوي معلومات مفيدة لو حلّلناها.


إنّني أسأل: هل هذه الموازين المعمول بها في الفقه على مستوى التثبّت التاريخي من النصوص هي موازين صحيحة ومطلوبة أم هي مبالغات من الفقهاء والأصوليين؟ فإذا كانت هي الموازين التي يفترض أن تعتمد في مجال التثبّت من النصوص، فلا فرق بين المسألة التاريخية والمسألة الفقهيّة في منهج التوثيق التاريخي للنصّ أو الحدث من الناحية العقلانية، بل بعض المسائل الفقهية أقلّ أهميّةً أحياناً من بعض المسائل التاريخية، كما أنّ دوافع الوضع والكذب والاختلاق في المسألة التاريخية (التي تشكّل خلافاً سياسياً ومادّة تراجيديّة) أكبر منها في المسألة الفقهيّة عادةً، الأمر الذي يفرض تشدّداً توثيقياً في الموضوع التاريخي يزيد على مثيله في الموضوع الفقهي؛ لأنّ مسألة التثبّت من نصّ أو حدث تاريخي تعتمد على منهج لا يفرّق فيه في نوعية ما تريد أن تثبته، بحيث يحقّ لك أن تتخلّى عنه في بعض الموضوعات. فكيف يجوز لي أن أصنع وعي الناس الثقافي والتاريخي بنصوصٍ متهالكة المصادر وتالفة الأسانيد وما لذلك من تأثير كبير على الفكر الديني، فيما لا يجوز لي أن أثبت كيفية الاستنجاء أو الدخول إلى الحمّام إلا بنصّ موثوق وإلا كنت متقوّلاً على الله؟! 


يبدو لي هذا شكلاً من أشكال التشظّي المنهجي. إنّني أعتقد أنّنا صرنا اليوم مراقبين أكثر من قبل التيارات السلفية المحيطة بنا والتي تنتظر كلّ هفوة لكي تقول للعالم بأنّ الشيعة قد شادوا مذهبهم ورؤيتهم للتاريخ على أضعف الروايات التاريخية والحديثيّة، وأنّهم عوّضوا نقصهم هذا بعناصر نفسيّة اطمئنانية لا ترقى إلى مستوى تحوّلها إلى منهج علمي، وأنّ خطابهم العقدي المصاغ في القضية الحسينية التاريخية لا يبلغ سوى مجموعة من القصص ـ وأحياناً المنامات ـ التي لا تثبت بالمنهج العلمي الرصين، وهذا يعني أنّه كلّما مارست النقد التاريخي أمكنني أن أقدّم صورة أكثر متانة علميّاً أمام الطرف الآخر الذي بات يتربّص سوءاً بمذهب أهل البيت عليهم السلام.
نعم لا يشترط في كلّ خطيب أن يقتصر على النصوص الصحيحة، فإذا كنتم تقصدون هذا المعنى فلا بأس به، لكنّ هذا لا يبرّر فوضى استحضار أيّ نصّ غير موثّق حتى لو كان يحمل مضموناً فيه علامات استفهامات كبيرة، وقد يؤدّي إلى خلق صور غير مناسبة للإمام الحسين عليه السلام وثورته، فينبغي ملاحظة هذا الأمر.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد