قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

أثر التقوى في تقبّل الهداية القرآنية (2)

 

الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
2- الارتباط بالله:
الصفة الأُخرى للمتقين هي أنهم ﴿يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾.
 «الصّلاة» باعتبارها رمز الارتباط بالله، تجعل المؤمنين المنفتحين على عالم ما وراء الطبيعة على ارتباط دائم بالخالق العظيم. فهم لا يحنون رؤوسهم إلا أمام الله، ولا يستسلمون إلا لرب السماوات والأرض، ولذلك لا معنى في قاموس حياتهم لعبادة الأوثان، أو التسليم أمام الجبابرة والطواغيت.
مثل هذا الإنسان يشعر أنّه أسمى من جميع المخلوقات الأُخرى، إذ أنّه منح لياقة الحديث مع ربّ العالمين، وهذا الإحساس الوجداني أكبر عامل في تربية الموجود البشري.
الإنسان الذي يقف خمس مرات يوميّاً أمام الله، يتضرّع إليه ويناجيه، ينطبع فكره وعمله وقوله بطابع إلهي، ومثل هذا الإنسان لا ينهج طريقاً فيه سخط الله (على أن يكون تضرّعه لله صادراً عن أعماق قلبه ومنطلقاً من تمام وجوده)(7).


3- الارتباط بالنّاس:
المتقون- إضافة إلى ارتباطهم الدائم بالخالق- لهم ارتباط وثيق ومستمر بالمخلوقين، ومن هنا كانت الصفة الثالثة التي يبيّنها لهم القرآن أنّهم ﴿ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.
يلاحظ أن القرآن لا يقول: ومن أموالهم ينفقون، بل يقول: ﴿ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ﴾، وبذلك وسّع نطاق الإنفاق ليشمل المواهب المادية والمعنوية.
فالمتقون لا ينفقون أموالهم فحسب، بل ينفقون من علمهم ومواهبهم العقلية وطاقاتهم الجسميّة ومكانتهم الاجتماعية، وبعبارة أُخرى: ينفقون من جميع إمكاناتهم لمن له حاجة إلى ذلك دون توقّع الجزاء منه.
الملاحظة الأُخرى: إن الإنفاق قانون عام في عالم الخليقة، وخاصة في التركيب العضوي لكل موجود حي. قلب الإنسان لا يعمل لنفسه فقط، بل ينفق ما عنده لجميع خلايا البدن. الدماغ والرئة وسائر أجهزة البدن تنفق دائماً من ثمار عملها، والحياة الجماعية- أساساً- لا مفهوم لها دونما إنفاق(8).
الارتباط بالنّاس- في الحقيقة حصيلة الارتباط بالله. فالإنسان المرتبط بالله يؤمن أن كل ما لديه من نعم إنّما هي مواهب إلهيّة مودعة لديه لفترة زمنيّة معيّنة.
ومن هنا فلا يزعجه الإنفاق بل يسرّه ويفرحه، لأنه بالإنفاق قسّم مال الله بين عباد الله، وبقيت له نتائج هذا العمل وبركاته المادية والمعنوية. وهذا التفكير يطهّر روح الإنسان من البخل والحسد، ويحوّل الحياة من ساحة لتنازع البقاء إلى مسرح للتعاون حيث يشعر كل فرد بأنه مسؤول أن يضع ما لديه من مواهب تحت تصرف كل المحتاجين، مثل الشمس تفيض بأشعتها على الموجودات دون أن تتوقّع من‏ أحد جزاء.
في حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السّلام) بشأن تفسير الآية ﴿ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ يقول: «إنّ معناه وممّا علّمناهم يبثّون»(9).
بديهي أنّ الرّواية لا تريد أن تجعل الإنفاق مختصاً بالعلم، بل إن الإمام الصادق (عليه السلام) يريد- بذكر هذا اللّون من الإنفاق- أن يوسّع مفهوم الإنفاق كي لا يكون مقتصراً على الجانب المالي كما يتبادر إلى الأذهان لأوّل وهلة.
ومن هنا يتضح ضمنياً أن الإنفاق المذكور في الآية، لا يقتصر على الزكوات الواجبة والمستحبة، بل يتسع معناه ليشمل كل مساعدة بلا مقابل.

 

4- الإيمان بالأنبياء (عليهم السّلام):
الخاصية الرابعة للمتّقين هي الإيمان بجميع الأنبياء وبرسالاتهم الإلهية؛ ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾. وفي هذا التعبير القرآني إشارة إلى أن المتقين يؤمنون بتوافق دعوة الأنبياء في المبادئ والأُسس، بأنهم جميعاً هداة البشرية نحو صراط مستقيم واحد، أحدهم يكمل الشوط الذي قطعه سلفه في قيادة البشرية نحو كمالها المرسوم. ويؤمنون بأن الأديان الإلهية ليست وسيلة للتفرقة والنفاق، بل هي وسيلة للارتباط وعامل للشّد بين أبناء البشر.
الأشخاص الذين يحملون مثل هذه الرّؤية ومثل هذا الإدراك، يسعون إلى تطهير أرواحهم من التعصّب، ويؤمنون بما جاء به جميع الأنبياء لهداية البشر وتكاملهم، ويحترمون كل دعاة وهداة طريق التوحيد.
الإيمان برسالات الأنبياء السابقين، لا يمنع طبعاً من انتهاج رسالة خاتم‏ الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) في الفكر والعمل، لأن هذه الرّسالة هي آخر حلقة من السلسلة التكاملية للأديان، وعدم انتهاجها يعني التخلّف عن المسيرة التكاملية للبشرية.
 

5- الإيمان بيوم القيامة:
آخر صفة في هذه السلسلة من الصفات التي قرّرها القرآن للمتقين هي ﴿وبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾.
إنهم يوقنون بأن الإنسان لم يخلق هملاً وعبثاً، فالخليقة عيّنت للكائن البشري مسيرة تكاملية لا تنتهي إطلاقاً بموته، إذ لو كان الموت نهاية المسير لكانت حياة الإنسان عبثاً لا طائل تحته.
المتّقون يقرّون بأن عدالة الله المطلقة تنتظر الجميع، ولا شي‏ء من أعمال البشر في هذه الدنيا يبقى بدون جزاء.

هذا اللون من التفكير يبعث في نفس حامله الهدوء والسكينة، ويجعله يتحمل أعباء المسؤولية ومشاقّها بصدر رحب، ويقف أمام الحوادث كالطود الأشمّ، ويرفض الخضوع للظلم. وهذا التفكير يملأ الإنسان ثقة بأن الأعمال- صالحها وطالحها- لها جزاء وعقاب، وبأنه ينتقل بعد الموت إلى عالم أرحب خال من كل ألوان الظلم، يتمتع فيه برحمة الله الواسعة وألطافه الغزيرة.
الإيمان بالآخرة يعني شقّ حاجز عالم المادة والدخول إلى عالم أسمى.
ويعني أن عالمنا هذا مزرعة لذلك العالم الأسمى ومدرسة إعدادية له، وأنّ الحياة في هذا العالم ليست هدفاً نهائيّاً، بل هي تمهيد وإعداد للعالم الآخر.
الحياة في هذا العالم شبيهة بحياة المرحلة الجنينية، فهي ليست هدفاً لخلقة الإنسان، بل هي مرحلة تكاملية من أجل حياة أخرى. وما لم يولد هذا الجنين سالماً خالياً من العيوب، لا يستطيع أن يعيش سعيداً في الحياة التالية.
الإيمان بيوم القيامة له أثر عميق في تربية الإنسان، يهبه الشجاعة والشهامة، لأن أسمى وسام يتقلّده الإنسان في هذا العالم، هو وسام «الشهادة» على طريق هدف مقدَّس إلهي، والشهادة أحبّ شي‏ء للإنسان المؤمن، وبداية لسعادته الأبديّة.
الإيمان بيوم القيامة يصون الإنسان من ارتكاب الذّنوب. بعبارة أخرى: يتناسب ارتكابنا للذنوب مع إيماننا بالله واليوم الآخر تناسباً عكسياً، فكلّما قوي الإيمان كلّما قلّت الذنوب. يقول الله سبحانه لنبيّه داود: ﴿ولا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ﴾(10).
نسيان يوم الحساب أساس كل طغيان وظلم وذنب، وبالتالي أساس استحقاق العذاب الشديد.

آخر آية في هذا البحث تشير إلى النتيجة التي يتلقّاها المؤمنون المتّصفون بالصفات الخمس المذكورة، تقول: ﴿أُولئِكَ عَلى‏ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ... وأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
وقد ضمن ربّ العالمين لهؤلاء هدايتهم وفلاحهم، وعبارة ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ إشارة إلى هذه الحقيقة.
واستعمال حرف (على) في عبارة ﴿عَلى‏ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ﴾ يوحي إلى أن الهداية الإلهية مثل سفينة يركبها هؤلاء المتقون لتوصلهم إلى السعادة والفلاح. (لأن حرف- على- يوحي غالباً معنى الاستعلاء).
واستعمال كلمة «هدى» في حالة نكرة يشير إلى عظمة الهداية التي شملهم الله بها.
وتعبير ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ يفيد الانحصار كما يذكر علماء البلاغة، أي: إن الطريق الوحيد للفلاح هو طريق هؤلاء المفلحين!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 (7) بشأن أهمية الصلاة وآثارها التربوية الكبرى، راجع تفسير الآية 114 من سورة هود (في المجلد السابع‏ من تفسير الأمثل).
(8) راجع بشأن الإنفاق وأهميته وآثاره، المجلد الثاني من تفسير الأمثل، ذيل الآيات 261- 274 من سورة البقرة.
(9) مجمع البيان، ونور الثقلين، في تفسير الآية المذكورة.
(10) سورة ص، 26.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد