قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

القسم بلفظ الجلالة

 

الشيخ جعفر السبحاني
حلف سبحانه تبارك وتعالى بلفظ الجلالة مرّتين ضمن آيتين من سورة النحل، وهو أعظم قسم ورد في القرآن الكريم.
قال سبحانه :
أ : ((وَيَجْعَلُونَ لما لا يَعْلَمُونَ نَصيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُون. (
ب : ((تَاللهِ لَقَدْأَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزيَّنَ لَهُمُ الشَّيطانُ أَعْمالُهُمْ فَهُوَ وَليُّهُمُ الْيَومَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ. (
تفسير الآية الأُولى
دلّت الآية الأُولى على جهل المشركين، حيث كانوا يجعلون نصيباً مما رزقوا للأصنام التي لا تضر ولا تنفع ويتقربون بذلك إليهم، وقال سبحانه : (وَيَجْعَلُونَ لما لا يَعْلَمونَ نَصيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لتسئلنَّ عَمّا كُنْتُمْ تفتَرون)
وقد حكى سبحانه عملهم هذا في سورة الأنعام ، وقال : (وَجَعَلُوا للهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللهِ وَما كانَ للهِ فَهُو يَصِلُ إِلى شُركائِهِمْ ساءَما يَحْكُمُون. (
فالكفار لأجل جهلهم بمبدأ الفيض كانوا يتقرّبون إلى الآلهة الكاذبة ـ أعني: الأصنام والأوثان ـ بتخصيص شيء مما رزقوا لها، مع أنّه سبحانه هو الأولى بالتقرّب لا غير، لأنّه مبدأ الفيض وما سواه ممكن محتاج في وجوده وفعله، فكيف يتقربون إليه؟!
والعجب أنّهم يجعلون نصيباً لله ونصيباً لشركائه، فما كان لله فهو يصل إلى شركائهم، وما كان لشركائهم لا يصل إلى الله سبحانه، وقد حكاه سبحانه في سورة الأنعام، وقال : (وَجَعَلُوا للهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللهِ وَما كانَ لله فَهُو يَصِلُ إِلى شُركائِهِمْ ساءَما يَحْكُمُون. 


وحاصل الآية : أنّهم كانوا يجعلون من الزرع والمواشي حظاً لله وحظاً للأوثان، وقد أسماها سبحانه (شركائهم)، لأنّهم جعلوا الأوثان شركاءهم، حيث جعلوا لها نصيباً من أموالهم ينفقونه عليها فشاركوها في نعمهم.
وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللهِ وَما كانَ لله فَهُو يَصِلُ إِلى شُركائِهِم وجوهاً)
أوّلها: أنّهم كانوا يزرعون لله زرعاً وللأصنام زرعاً، فكان إذا زكا الزرع الذي زرعوه لله ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه إليها، ويقولون إنّ الله غنيّ والأصنام أحوج؛ وإن زكا الزرع الذي جعلوه للأصنام ولم يزك الزرع الذي زرعوه لله لم يجعلوا منه شيئاً لله، وقالوا: هو غني؛ وكانوا يقسمون النعم فيجعلون بعضه لله وبعضه للأصنام فما كان لله أطعموه الضيفان، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم، وهذا هو المرويّ عن الزجاج وغيره.
ثانيها: إنّه كان إذا اختلط ما جُعل للأصنام بما جُعل لله تعالى ردّوه، وإذا اختلط ما جعل لله بما جُعل للأصنام تركوه، وقالوا: الله أغنى، وإذا تخرق الماء من الذي لله في الذي للأصنام لم يسدُّوه، وإذا تخرق من الذي للأصنام في الذي لله سدّوه، وقالوا: الله أغنى. عن ابن عباس وقتادة، وهو المروي عن أئمتنا عليهم‌السلام.


وثالثها: إنّه كان إذا هلك ما جعل للأصنام بدَّلوه مما جعل لله، وإذا هلك ما جعل لله لم يبدّلوه مما جعل للأصنام. عن الحسن والسدي.
وفي الحقيقة أنّ هذا النوع من العمل، أي توزيع القربان بين الله والآلهة، كان تزييناً من شركائهم وهم الشياطين أو سدنة الأصنام حيث زينوا لهم هذا العمل وغيره من الأعمال القبيحة، قال تعالى: (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِكَثيرٍ مِنَ الْمُشْرِكينَ قَتْلَ أَولادِهِمْ شُركاؤُهم لِيُرْدُوهُمْ) (أي ليهلكوهم بالإغواء) (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَو شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ).
 

تفسير الآية الثانية
يقول سبحانه : (تَاللهِ لَقَدْأَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزيّنَ لَهُمُ الشَّيطان أَعمالَهُمْ) فهؤلاء كفروا وضلّوا وكذّبوا الرسل وقد زيّن الشيطان أعمالهم فهو وليّهم اليوم أي الشيطان الذي زين لهم أعمالهم فهو أيضاً يقوم بنفس هذا العمل فالولي واحد وإن كان المتولى عليه مختلفاً، وبالتالي إنّ الشيطان وليهم اليوم في الدنيا يتولونه ويتبعون إغواءه (ولهم عذاب أليم).
إلى هنا انتهينا من تفسير الآيتين، فلنذكر المقسم به، وجواب القسم، وما هي الصلة بينهما.


المقسم به
المقسم به في الآيتين هو لفظ الجلالة الذي جاء ذكره في القرآن الكريم حوالي ٩٨٠ مرة.
وقد ذهب غير واحد من أصحاب المعاجم إلى أنّ أصله، إله، فحذفت همزته وأدخل عليه الألف واللام فخص بالباري تعالى، قال تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً).
ثمّ إنّ «إله» إما من أله يأله فهو الإله بمعنى المعبود، أو من أله ـ بالكسر ـ أي تحير، لتحير العقول في كنهه.

أقول : سيوافيك بأنّ الإله ليس بمعنى المعبود، وأنّ من فسره به فقد فسره بلازم المعنى، وعلى فرض ثبوته فلفظ الجلالة علم بالغلبة وليس فيه إشارة إلى هذه المعاني من العبادة والتحيّر، وقد كان مستعملاً دائراً على الألسن قبل نزول القرآن تعرفه العرب في العصر الجاهلي، يقول سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَ الله. (فقد أشار بلفظ الجلالة إلى خالق السماوات والأرض دون تبادر مفهوم العبادة أو التحير منه.
وممّا يدل على كونه علماً أنّه يوصف بالأسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من دون عكس، فيقال الله الرحمن الرحيم، أو يقال علم الله ورزق الله، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها، ولا يؤخذ منه ما يوصف به شيء منها، وهذا يدل على أنّه علم وليس بوصف، فيكون اسماً للذات الواجبة الوجود المستجمعة لجميع صفات الكمال، ولهذا اللفظ في جميع الألسنة معادل كلفظة" خدا" في لغة الفرس و"" في لغة الافرنج و" تاري" في لغة الترك.


جواب القسم
أمّا جواب القسم في الآية الأُولى ، فهو عبارة عن قوله : ((لتسئلن عمّا كنتم تفترون)
كما أنّ جوابه في الآية الثانية ، هو قوله : ((لَقَدْأرْسلنا إِلى أُمم من قَبْلك).
فقد أقسم سبحانه في هاتين الآيتين بلفظ الجلالة لغاية التأكيد على أمرين :
أ : إنّهم مسؤولون يوم القيامة عن افترائهم الكذب.
ب : إنّه سبحانه لم يترك الخلق سدى بل أرسل إليهم رسلاً، لكن الشيطان حال بينهم وبين أُممهم، وتشهد على ذلك سيرة عاد وثمود بل اليهود والنصارى والمجوس.
ما هي الصلة بين المقسم به والمقسم عليه؟
هذا هو المهم في أقسام القرآن، وقد أُهمل في كثير من التفاسير، ويمكن أن يقال :
أمّا الآية الأُولى، فالقسم بلفظ الجلالة لأجل أنّ المشركين كانوا يجعلون لله نصيباً مما زرعوا من الحرث والأنعام  وكانوا يقولون: هذا لله، فناسب أن يقسم به لأجل أنّه افتراء عظيم.
وأمّا الآية الثانية، فلأنّه جاء في ذيل جواب القسم ولاية الشيطان، كما قال : (فهو وليّهم اليوم) وبما أنّ الولاية لله سبحانه كما قال تعالى : (هنالِكَ الولايةُ للهِ الحق (ناسب الحلف بالله الذي هو الوليّ دونَ الشيطان، كما عليه المشركون.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد