من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

العفو عند المقدرة

 

الشيخ جعفر السبحاني
لقد كانت سوابق رسول الله (صلى الله عليه وآله) المشرّفة، وأخلاقه الحميدة، وصدقه وأمانته طوال حياته، من الأمور الواضحة المعلومة عند أقربائه وأبناء عشيرته.
فقد كان الجميع يعلم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يرتكب طيلة حياته الشريفة إثماً، ولم يفكر في ذنب، ولم ينو الاعتداء على أحد، ولم يقل بلسانه سوءاً ولا قبيحاً، ولا خان في أمانة، ولا أفشى سراً، ولا تخلّف عن فضيلة، ولهذا استجاب لدعوته ـ في الأيام الأولى من دعوته العامة ـ الأكثرية الساحقة من قبيلته (بني هاشم)، والتفّوا حوله، وتحمّلوا الدّفاع عنه، ودعم مواقفه.
ولقد أشار أحد المستشرقين المنصفين إلى هذه الحقيقة، واعتبرها دليلاً على طهارة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصدقه ونزاهته، فهو يقول: "مهما كان المرء متكتّماً متستّراً على أعماله وأفكاره، فإنه لا يستطيع بحال أن يخفي تفاصيل حياته عن ذويه وأقربائه، ولو كان لمحمّد حالات نفسيّة أو أفعال سيّئة، لما خفيت على أقربائه، ولما كانوا ينقادون إليه بمثل هذه السّرعة".
نعم، يستثنى من بني هاشم عدة أشخاص أحجموا عن الإيمان برسول الله (صلى الله عليه وآله) والاستجابة لدعوته، ويمكن الإشارة ـ في هذا المجال ـ بعد أبي لهب المعروف، بل والمصرَّح بعداوته في القرآن ـ إلى أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة، اللّذين خاصما رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعارضا دعوته بشدة، ولم يكتفيا بعدم الإيمان برسالته، بل منعا من انتشار الحق، وآذيا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشدّ الأذى، وألّبا عليه أكثر من أيّ شخص آخر.
ولقد كان أبو سفيان هذا ابن عمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخاه من الرّضاعة، وكان يألف رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل البعثة، ولكنّه اختلف مع النبي بعد ابتعاثه بالرّسالة، وبنى على مخالفته ومعاداته.
وأمّا عبد الله بن أبي أميّة، فهو أخو أمّ سلمة ابنة عاتكة عمّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وابنة عبد المطلب.


ولقد حدا انتشار الإسلام في كل أنحاء الجزيرة العربية بهذين الرّجلين إلى أن يخرجا من مكة ويلتحقا بالمسلمين.
فقد خرجا قبيل الفتح من مكة، فلقيا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصحابه في أثناء الطريق، وعلى وجه التحديد في نقطة تدعى بثنية العقاب، والنبيّ قاصد مكة، فاستأذنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليدخلا عليه، وأصرّا على ذلك، فأبى النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يأذن لهما.
وقد وسّطا أمّ سلمة، وطلبا منها بلهجة عاطفيّة أن تشفع لهما عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى يرضى عنهما، فكلّمته فيهما، ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبى وقال: لا حاجة لي بهما، أمّا ابن عمّي، فهتك عرضي، وأما ابن عمّتي وصهري، فهو الذي قال بمكّة ما قال .
ولما كان عليّ (عليه السلام) أعرف النّاس بنفسيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخلاقه، وبطريقة استعطافه، فقد كلّمه أبو سفيان في الأمر، فعلّمه علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن يأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قبل وجهه، فيقول: {قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}[يوسف: 91]، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيجيبه بما قاله يوسف لإخوته، إذ قال لهم: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف: 92]؛ لأنّه (صلى الله عليه وآله) لا يرضى بأن يتفوَّق عليه أحد في حسن القول.


ففعل أبو سفيان هذا ما أشار عليه الإمام علي (عليه السلام)، ودخل من الطريق الذي بيّنه له، فعفا عنه رسول الله كما فعل يوسف بإخوته، فأنشد أبو سفيان قصيدة أراد بها أن يكفّر عمّا سبق منه، قال فيها :
لعمرك إني يوم أحمل رايةً لتغلب خيل اللات خيل محمّد
فكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين أهدى فأهتدي
ويكتب ابن هشام في سيرته قائلاً: قال أبو سفيان ومعه ابنه، لما أعرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنه وأبى أن يأذن له: "والله ليقبلنّي، أو لأخذت بيد ابني هذا فلأذهبنّ في الأرض حتى أهلك عطشاً وجوعاً، وأنت أحلم الناس مع رحمي بك" .
وقد سبق أن قالت أمّ سلمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، قد كلّمته في أبي سفيان: "بأبي أنت وامّي يا رسول الله، ألم تقل إنّ الاسلام يجبّ ما كان قبله؟ فرقّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لهما، وأذن لهما، فدخلا، وقبل إسلامهما.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد