قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

القسم في سورة القيامة (1)

الشيخ جعفر السبحاني

حلف سبحانه في سورة القيامة بأمرين: 1. يوم القيامة، 2. النفس اللوامة، وقال: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَومِ القِيامَة * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ * أَيَحْسَبُ الاِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بلى قادِرينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ * بَلْ يُريدُ الاِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ * يَسَئلُ أَيّانَ يَومُ القِيامَة﴾.(1)

تفسير الآيات

اختلف المفسرون في كلمة "لا " على أقوال(2)

الاَوّل: أنّ لا أقسم كلمة قسم وأنّ العرب تزيد كلمة لا في القسم، كما قال امروء القيس:

لا وأبيك ابنة العامـري * لا يدعي قـوم أنّـي أفر

الثاني: أنّ لا نافية، رد لكلام قد تقدّم، وجواب لهم، وذلك هو المعروف في كلام الناس في محاوراتهم، فإذا قال أحدهم: لا، واللّه ما فعلت كذا، قصد بقوله: "لا" ردّ الكلام السابق، فهم لما أنكروا البعث، قيل لهم ليس الأمر على ما ذكرتم، ثمّ أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة إنّ البعث حقّ.

الثالث: أنّها للنفي، على معنى أنّي لا أعظمه بأقسامي به حقّ إعظامه، فإنّه حقيق بأكثر من هذا، وهو يستحق فوق ذلك.

فعلى المعنى الأوّل"لا" زائدة، ولكنّه بعيد في كلام ربّ العزة، والمتعين أحد المعنيين الاَخيرين.

أمّا المقسم به: فهو أمران:

أ: يوم القيامة.

ب: النفس اللوامة.

أمّا الأوّل: فهو يوم البعث الذي يجمع اللّه فيه الناس على صعيد واحد، وإنّما سمّي يوم القيامة لأجل أنّه يقوم به الحساب، قال سبحانه حاكياً عن إبراهيم: ﴿رَبَّنا اغْفِر لي وَلِوالِدَيّ وَلِلْمُؤمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِساب﴾ (3) وأنّه يوم يقوم به الأشهاد، قال سبحانه: ﴿إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالّذِين َآمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَيَومَ يَقُومُ الاَشْهاد﴾ (4) وأنّه يوم يقوم فيه الروح، قال سبحانه:﴿يَومَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلائِكةُ صَفّاً﴾ (5)، وأنّه يوم يقوم الناس لربّ العالمين، كما قال سبحانه:﴿يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِين﴾(6)، إلى غير ذلك من الوجوه التي توضح وجه تسمية اليوم بالقيامة، وقد جاء يوم القيامة في القرآن سبعين مرّة، فلم تستعمل القيامة إلاّ مضافة إلى يوم.

وأمّا الثاني: أي النفس اللوامة صيغة مبالغة من اللوم، وهي عدل الإنسان بنسبته إلى ما فيه لوم، يقال لمته فهو ملوم، قال سبحانه: ﴿فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ﴾ (7) إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها اللوم وما اشتق منه.

واختلف المفسرون في المراد من النفس اللوامة على أقوال:

الأوّل: هي نفس آدم التي لم تزل تتلوّم على فعلها الذي خرجت به من الجنة والظاهر أنّ هذا القول من قبيل تطبيق الكلي على مصداقه، وليس هناك قرينة على أنّها، المراد فقط.

الثاني: مطلق النفس، إذ ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلاّ وهي تلوم نفسها يوم القيامة إن كانت عملت خيراً قالت: هلا ازددت، وإن كانت عملت سوءاً قالت: يا ليتني لم أفعل.

الثالث: وربما تختص بالنفس الكافرة الفاجرة.

الرابع: عكس ذلك، والمراد نفس الموَمن التي تلومه في الدنيا على ارتكاب المعصية وتحفّزه على إصلاح ما بدا منه.

والظاهر أنّ القول الثاني هو المتعيّن، أي مطلق النفس التي تلوم صاحبها سواء أكان لأجل فوت الخير أو ارتكاب الشر.

وعلى كلّ حال فالآية تحكي عن المنزلة العظيمة التي تتمتع بها النفس اللوامة إلى حدّ أقسم بها سبحانه وإلاّ لما حلف بها.

وأمّا المقسم عليه فمحذوف أي لتُبْعثُنَّ.

وأمّا الصلة بين المقسم عليه أعني قوله: "لتبعثن" والحلف "بالنفس اللوامة" فهي ظهور اللوم من هذه النفس يوم القيامة، فإنّ نفس الكافر لا تلومه في الدنيا إلاّ قليلاً، في حين يتجلّـى اللوم ويتجسّد يوم القيامة أكثر فأكثر.

وأمّا كرامة النفس اللوامة فواضحة جداً، لأنّها تردع الإنسان عن اقتراف الذنوب، ولا يمكن خداعها، وهي يقظة تزجر الإنسان دائماً بالنسبة إلى ما عمله وقصده.

إنّ إبراهيم لما حطّم الأصنام وجعلها جذاذاً إلاّ كبيراً لهم لعل القوم يرجعون إليه ويرتدعون عن عقيدتهم بإلوهيتها، فلمّا رجعوا ووقفوا على أنّه عمل إبراهيم أحضروه للاقتصاص منه، وخاطبوه بقولهم: ﴿أأنت فعلت هذا بآلهتنا﴾، فأجابهم إبراهيم: ﴿بل فَعَلَهُ كَبيرهُم﴾، ثمّ أمرهم بسؤاله عن الجريمة التي ارتكبها، فبهُت الجمع من هذا السؤال وظلوا صامتين لعجزهم عن الإجابة، فعندئذ تبين لهم أنّ مثل هذا الصنم أحط من أن يعبد، فاستيقظ وجدانهم وأخذت نفوسهم تلومهم على النهج الذي اختطوه، بل الآلهة التي عبدوها حيث وجدوا أنّها غير خليقة بالعبادة والخضوع، وهذا ما يحكي عنه القرآن بقوله: ﴿فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنّكم أنتم الظالمون﴾ أي خاطبوا أنفسهم بالظلم، فكأنّه قال بعضهم لبعض أنتم الظالمون حيث تعبدون ما لا يقدر عن الدفع عن نفسه وما نرى الأمر إلاّ كما قال هذا الفتى.

هذه هي النفس اللوامة التي تظهر بين الحين والآخر وتزجر الإنسان عن ارتكاب الذنوب.

وهذا الذي يسمّيه علم النفس في يومنا هذا بالوجدان الأخلاقي، ويصفون الوجدان محكمة لا تحتاج إلى قاض سوى النفس، وهي التي تقوم بتأسيس المحكمة، وتشخص المجرم، وتصدر الحكم بلا هوادة، ودون أي تهاون.

وفي الآيات القرآنية الأخرى إشارة إلى تلك المرتبة من النفس، يقول سبحانه: ﴿وَنَفْسٍ وَما سَوّاها *فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها﴾.(8)

يقول الاِمام الصادق في تفسير الآية: "بيّن لها ما تأتي وما تترك".(9)

إن ّاللوم والعزم فرع معرفة النفس بخير الأمور وشرّها، فلو لم تكن عالمة من ذي قبل لم تصلح للوعظ ولا للزجر، ولأجل ذلك،يقول سبحانه: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَينَين *وَلِساناً وَشَفَتَيْن * وَهَدَيْناهُ النَّجْدَين﴾.(10)

يقول الاِمام الصادق (عليه السلام):"هداه إلى نجد الخير والشر". (11)

ثمّإنّ مراتب الزجر تختلف حسب صفاء النفس وكدورتها وابتعادها عن ممارسة الشر، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): "إنّ اللّه إذا أراد بعبد خيراً طيّب روحه فلا يسمع معروفاً إلاّ عرفه ولا منكراً إلاّ أنكره".(12)

نعم، ما حباه اللّه سبحانه لكلّ إنسان من النفس اللوامة، كرامة ونعمة عظيمة، حيث يعرف على ضوئها الحسن من القبيح والخير من الشر، ولكنّه لو مارس الشرّ مدّة لا يستهان بها ربما تعوق النفس عن القضاء في الخير بالخير والشر بالشر، بل ربما يرى الشر خيراً والخير شراً، وذلك فيما إذا زاوله الإنسان كثيراً بنحو ترك بصماته على روحه ونفسه وقضائه وتفكيره، وقد أشار سبحانه إلى أنّ قبح وأد البنات وقتل الأولاد - لأي غاية من الغايات كانت - أمر يدركه كلّ إنسان، ولكن ترى أنّ بعض المشركين يستحسن عمله هذا ويعدّه من مفاخره وكراماته، يقول سبحانه: ﴿وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِكَثيرٍ مِنَ الْمُشْرِكينَ قَتْلَ أَولادِهِمْ شُرَكاؤهُمْ﴾. (13)

فقد أثر الشركاء في عقول الوثنيين وتفكيرهم فصار القبيح حسناً والشر خيراً، يقول سبحانه: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرآهُ حَسَناً فَإنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاء﴾.(14)

وعلى هذا فليست النفس اللوامة باقية على صفاتها وقضائها الحق في جميع الظروف والحالات بل ربما يكون قضاوَها على خلاف ما هو الحقّ، لا سيما فيمن يزاول الجرم طيلة عمره، فربما يعود في آخر عمره يتنكر لجميع المقدسات ويسيطر فعله القبيح على آفاق فكره وإيمانه، يقول سبحانه: ﴿ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساءُوا السُّوأى أن كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ﴾. (15)

ــــــــــــ

1- القيامة:1ـ 6.

2- مرّ الكلام فيه أيضاً لاحظ ص: 81.

3- إبراهيم:41.

4- غافر:51.

5- النبأ: 38.

6- المطففين:6.

7- إبراهيم:22.

8- الشمس:7ـ 8.

9- الكافي:1|163.

10- البلد: 8 ـ 10.

11- الكافي:1|163.

12- اثبات الهداة:1|87.

13- الاَنعام:137.

14- فاطر:8.

15- الروم:10.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد