قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ

الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

قال تعالى : {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات : 139 - 148] .

إن إستعراض القرآن لهذه القصص يهدف إلى تربية الإنسان ، لأنّ القرآن ليس كتاب قصص وإنّما هو كتاب هدفه بناء الإنسان وتربيته.

من هذه القصّة العجيبة يمكن استخلاص الكثير من المواعظ والعبر : 

أ ـ ترك النّبي للعمل بالأولى يعدّ أمراً مهمّاً عند الله ، ويؤدّي إلى مجازاة ذلك النبي ، لأنّ مرتبة الأنبياء عالية جدّاً ، وأبسط غفلة منهم تعادل ذنباً كبيراً يرتكبه عوام الناس ، ولهذا السبب أطلق الله سبحانه وتعالى تسمية (الآبق) على عبده يونس في هذه الآية ، والتي تعني العبد الهارب.

وقد ورد في بعض الروايات أنّ ركّاب السفينة كانوا يقولون : هناك شخص عاص بيننا!

وعاقبة الأمر أنّ الباري عزّ وجلّ ابتلاه بسجن رهيب ، ثمّ أنقذه منه بعد أن تاب وعاد إلى الله ، وكان منهار القوى مريضاً.

ذلك ليعرف الجميع أنّ التواني غير مقبول من أي أحد ، فعظمة مرتبة أنبياء وأولياء الله إنّما يحصلون عليها من طاعتهم الخالصة لأوامر الله سبحانه وتعالى ، وإلاّ فالله لا تربطه صلة قربى مع أي أحد ، وإنّ الموقف الحازم الذي اتّخذه الله تجاه عبده يونس يوضّح عظمة مرتبة هذا النّبي الكبير.

ب ـ أحداث هذه القصّة (وخاصّة ما ورد في الآية (87) من سورة الأنبياء) كشفت عن سبيل نجاة المومنين من الغمّ والحزن والابتلاءات والمشاكل ، وهو نفس السبيل الذي انتهجه يونس ، وهو اعترافه بخطئه أمام الله وتسبيحه الله وتنزيهه والعودة إليه.

ج ـ هذه القصّة توضّح كيف أنّ قوماً مذنبين مستحقّين للعذاب يستطيعون في آخر اللحظات تغيير مسيرتهم التأريخية ، بعودتهم إلى أحضان الرحمة الإلهيّة ، وإنقاذ أنفسهم من العذاب ، وهذا مشروط بالصحوة من غفلتهم قبل فوات الأوان ، وإنتخاب شخص «عالم» قائداً لهم.

د ـ هذه الحادثة تبيّن أنّ الإيمان بالله والتوبة من الذنوب علاوة على أنّها تتسبّب في نزول الآثار والبركات المعنوية ، فهي توجد النعم والهبات الدنيوية وتجعلها في اختيار الإنسان ، وتوجد حالة من العمران والبناء ، وتطيل الأعمار ، ونظير هذا المعنى ورد أيضاً في قصّة نوح (عليه السلام) والذي سنقرأ شرحه بعون الله في تفسير سورة نوح.

هـ ـ أخيراً فإنّ مجريات هذه القصّة تستعرض قدرة الباري عزّوجلّ العظيمة التي لا يقف أمامها شيء ولا يصعب عليها شيء ، إلى درجة تستطيع حفظ حياة إنسان في فم وجوف حيوان كبير وحشي ، وإخراجه سالماً من هناك ، هذا الأمر يبيّن أنّ كلّ ما هو موجود في هذا الكون هو أداة بيده تعالى ومسخّر لأوامره.

هنا يطرح هذا السؤال : عند بيان قصص الأقوام الأخرى في القرآن المجيد ، نلاحظ أنّه عند نزول العذاب عليهم (عذاب الاستئصال الذي كان ينال كلّ الأقوام الطاغية والمتجبّرة) لا تكون التوبة مقبولة والإنابة مؤثّرة ، فكيف استثني قوم يونس من هذا الأمر؟

هناك إجابتان على هذا السؤال:

الأولى : هي أنّ العذاب لم يكن قد نزل بهم ، لأنّهم بمجرّد أن شاهدوا دلائل بسيطة تنذر بالعذاب ، استغلّوا هذه الفرصة وآمنوا بالله وتابوا إليه قبل حلول البلاء.

الثانية : أنّ عذابهم لم يكن لإهلاكهم ، وإنّما كان بمثابة تنبيه وتأديب لهم قبل نزول العذاب المهلك ، وهو الأسلوب الذي كان يتّبع مع الأقوام السابقة ، أي تظهر لهم بعض دلائل العذاب كآخر فرصة لهم ، فإن آمنوا كفّ الله عنهم العذاب ، وإن بقوا على طغيانهم أنزل الله العذاب عليهم ليهلكهم عن آخرهم ، كما عذّب قوم فرعون بمختلف أنواع العذاب قبل أن يغرقهم الله في البحر.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد