قرآنيات

المصلحة فوق القرابة

الشيخ محمد جواد مغنية

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَواطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } [يوسف: 7 - 15]

الإنسان عبد مطيع لإحساسه وشعوره ، وليس في استطاعته أن ينعزل عنه أو يتجاهله . كيف ؟ وهل ينفصل الشيء عن ذاته وهويته ؟ . والمحرك الأول لهذا الشعور هو المصلحة ، أي طلب اللذة ، وطرد الألم ، وهي المثل الأعلى للإنسان ، وإليها يستند الدور الحاسم فيما يفعل أو يترك .

أما القرابة فليست بشيء يحرك الإنسان إذا لم تحقق له شيئًا من اللذة ، أو تبتعد به عن الألم ، فحب الإنسان لقريب من أرحامه يقاس بهذه المصلحة ، وعلى نسبتها يضعف الحب أو يقوى ، وأوضح مثال على ذلك أن حزن القريب وأسفه على فقيد من أقاربه يأتي على مقدار نفعه منه في حياته - غالبًا - ويصبح القريب من ألد الأعداء إذا تسبب في آلام قريبه ، أو أفسد عليه لذته وراحته . . فكم من والدة قضت على حياة وليدها لتشبع شهوتها وتتمتع بلذتها ؟ . وكم من ولد استعجل ميراثه من أبيه فأودى بحياته ؟ . وقتل قابيل هابيل ، وهما أول أخوين انبثقا من نطفة واحدة ، وتكوّنا في رحم واحد . . وألقى أولاد إسرائيل يوسف في غيابة الجب ، ولم تأخذهم به رأفة على رغم القربى وصلة الدم .

ولذا قال علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « القرابة إلى المودة أحوج من المودة إلى القرابة » حتى المودة والصداقة مصدرها اللذة الروحية ، ولكن كثيرًا ما يذهل الإنسان عن نفسه ، ويسهو عن واقعه ، فيشرح بمنطق القرابة ما يفعله بوحي من مصلحته .

وليس من الضروري أن تكون هذه المصلحة التي تحرك الإنسان شخصيته ، فإن المخلص الواعي يؤمن قولًا وعملًا بأن مصلحته فرع عن مصلحة الجماعة ، فيألم لألمها ، ويفرح لفرحها ، ويرى الخير ، كل الخير ، في إحقاق الحق وإقامة العدل . . أما غير المخلص فلا يرى هما غير همه ، ولا حياة غير حياته ، تماما كما فعل أبناء إسرائيل بيوسف ، ليتمتعوا وحدهم بعطف أبيهم . . ولكن اللَّه سبحانه عاقبهم بالحرمان ، وباؤوا بغضب على غضب من اللَّه ونبيه يعقوب ، وظفر يوسف بالعز والكرامة ، ووقفوا بين يديه أذلاء يعترفون بالذنب ، ويطلبون العفو والصفح بقولهم : « تاللَّه لقد آثرك اللَّه علينا وإن كنا لخاطئين » .

{ لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ } . ألقى أبناء إسرائيل يوسف في الجب ، لا لشيء إلا لأن أباه فضله عليهم بالعطف والحنان ، وحاربت قريش محمدًا ، وبالغت في إيذائه ، وهو قرشي مثلهم ، لأن اللَّه فضله عليهم ، وعلى الناس أجمعين ، ونصر اللَّه يوسف على إخوته ، وكذلك نصر محمدًا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على عشيرته ، وفي ذلك عبر وعظات لمن أراد معرفة الحقائق ، ويعتبر بها .

{ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } . معنى هذه الآية وما بعدها ظاهر، ومع هذا نعقب على كل آية بما يناسبها . . لما رأى أبناء إسرائيل ميل أبيهم إلى يوسف وأخيه غلى الحقد والحسد في قلوبهم ، وقال بعضهم لبعض : ما الذي حمل هذا الشيخ على أن يؤثر هذين الصبيين علينا ، ونحن أكبر سنًّا، وأشد قوة ، وأكثر نفعا وخدمة ؟ . إن هذا هو الحيف والضلال . . وكان يوسف وأخوه بنيامين من أم ثانية اسمها راحيل، وكثيرًا ما يكون تعدد الأمهات سببًا للحقد والحسد بين بني العلَّات .

{ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } . تآمروا على قتله ، لا لشيء باعترافهم إلا ليحتكروا عطف أبيهم من دونه . . وهذا هو منطق الاحتكار والمحتكر . . اقتل وشرد . . حتى الأقارب والأرحام حرصا على الأرباح والمكاسب .

{ وتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ } . قال كثير من المفسرين : إن المراد بالصلاح هنا صلاح الدين ، وإنهم يتوبون إلى اللَّه بعد فعلتهم الشنعاء . ولكن ظاهر السياق يدل على أن المراد بالصلاح صلاح شأنهم مع أبيهم ، وأن يتفرغ لهم وحدهم .

{ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ } . السيارة هم المسافرون . وعن سفر التكوين من التوراة أن الذي أشار عليهم بهذا هو أخوهم روبين ، وأنه قد كان في نيته أن يخرج يوسف من الجب بعد ذهاب إخوته .

{ قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ } . نحبه ونريد له الخير . . وهكذا الغادر الماكر في كل زمان ومكان ، ذئب في جلد حمل { أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ ويَلْعَبْ وإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ } . لقد علموا أن أباهم يحب يوسف ، ويحب أن يتنعم ويفرح ، وعلموا أيضًا شدة حرصه عليه ، فدخلوا إلى نفسه من أبوابها . .

يوسف يلعب ، وهم يحرسونه من كل مكروه . . حاميها حراميها . { قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ } . اعتذر إليهم بأنه لا يطيق فراق يوسف . فضاعف هذا العذر من حقدهم على يوسف . وأيضاً اعتذر بأنه يخاف عليه من الذئب ، وعقّب الرازي على هذا العذر بقوله : « وكأنه قد لقنهم الحجة ، وفي الأمثال : إن البلاء موكل بالمنطق » .

{ قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ ونَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ } . أي عاجزون لا نصلح لشيء : واغتر الشيخ بقولهم وأرسل معهم يوسف ، وكانوا من القوم الخاسرين { فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ } ونفذوا ما أجمعوا عليه ، وهم يحسبون انهم قد أصابوا ما يريدون . . ولكن يوسف فوّض أمره إلى اللَّه فوقاه سيئات مكرهم { وأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وهُمْ لا يَشْعُرُونَ } .

فألقى اللَّه في روع يوسف أنك ناج من محنتك هذه ، وأنك سوف تخبرهم بصنيعهم هذا دون أن يعرفوا من أنت .بين أولاد إسرائيل وأولاد العلماء :

وبهذه المناسبة نذكر أوجه الشبه بين بعض أولاد العلماء بالدين ، وأولاد إسرائيل وهو الاسم الثاني ليعقوب .

قال أولاد إسرائيل : « إن أبانا لفي ضلال مبين » .

وبهذا الوصف ينعت بعض أولاد العلماء آباءهم إذا قالوا كلمة أو تصرفوا تصرفًا لا يعجبهم ولا يتفق مع أهوائهم ، حتى ولو كان وحيًا منزلًا .

وقال أولاد إسرائيل : { اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قومًا صالحين } .

وهكذا يفعل بعض أولاد العلماء . . يتآمرون على الناصح الأمين ، ويدسون عليه الدسائس والمفتريات ليخلو لهم وجه أبيهم وللشياطين من أمثالهم ، ثم يوحون إليه بما استوحوه من وسطاء الشر وعملاء الشيطان ، ويقبضون الأجر بالعملة الصعبة والنقد النادر ، وكلما كان التأثير بالغًا تضاعف الأجر .

وجاء أولاد إسرائيل على قميص يوسف { بدم كذب } .

وفي كل يوم يحمل بعض أولاد العلماء لأبيهم أحاديث وروايات ابتدعوها ظلمًا وزورا ينالون بها من مقام المخلص الأمين، ويرفعون من شأن الخائن العميل عند أبيهم ليأخذ منه ومنهم دون مراقب ومعاتب .

وجاء أولاد إسرائيل { أباهم عشاء يبكون } يسترون فعلتهم الشنعاء بالنفاق ودموع التماسيح .

وتظاهر أولاد العلماء أمام أبيهم المقدس بالتقى والقداسة كذبا ورياء ، لينخدع بدسائسهم ومؤامرتهم .

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد