علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

إثبات وجود العقل (1)


الشيخ محمد تقي مصباح يزدي ..
1- العلّية أصل عقلي
أما القائلون بأن لا قوة للإنسان تسمى بالعقل فنحن نسألهم، هل تدركون مثل هذه القضايا ولديكم أحكام عقلية بشأنها: الشي‏ء (ألف) علة للشي‏ء (ب)، هل تعرفون معنى هذه القضية أو لا تعرفون؟
لا نظن إنسانًا عاقلًا ينكر هذه القضية الحاكية عن علية وسببية شي‏ء لشي‏ء، فنسألهم بما أنكم عرفتم مفهوم العلية والسببية، فمن أي شي‏ء أخذتم هذا المفهوم؟ يقولون إذا استعملنا عاملًا وسببًا نجد خلفه وبعده أثراً خاصاً يستند إليه فيقال هذا علة وسبب لذلك، فإيقاد النار يوجب الحرارة ولذا نقول النار علة للحرارة.
فنسألهم ثانيًا ماذا رأيتم في إيقاد النار؟ إنما رأيتم النار تشتعل والحرارة تحرق، فكيف فهمتم وعلمتم أن بين إيقاد النار وحدوث الحرارة ارتباطاً حقيقياً؟ فما تراه العين هو اشتعال النار وما تدركه اللامسة هو حدوث الحرارة، أما علية هذا لذاك فليس يدركه حس من الحواس. يجيبون أنه لا نريد من العلية إلا نفس ذاك، فالعلية لفظة تحكي عن حدوث الحرارة بعد إيقاد النار لا يعني شيئاً وراءه ويعبر عنه بأن العلية بين شيئين هي تعاقب أحدهما للآخر مثل تعاقب حدوث الحرارة لإيقاد النار، فالعلّية لا تعني غير ذلك.
فيقال لهم مرة أخرى: قد يحدث أمران متقارنان ونحن نحكم أن أحدهما سبب للآخر، مثلًا نأخذ المفتاح ونحركه فينفتح الباب فهناك ثلاثة ظواهر: حركة اليد وحركة المفتاح وانفتاح الباب، وكلها تحصل في زمن واحد، فهل حركة اليد سبب لحركة المفتاح أو حركة المفتاح سبب لحركة اليد؟ أم أنه ليس هناك علّية لأن هناك أمرين متزامنين لا متعاقبين.
ربما يجيب بعضهم بأن العلية قسمان: قسم منه يعني التعاقب، وقسم منه يعني التزامن، فنقول لهم: حركة اليد وحركة المفتاح متزامنان، فأيهما علة للآخر؟ فإذا كانت العلية تعني التزامن في هذا القسم فهل يمكن اعتبار حركة المفتاح علة لحركة اليد كما يمكن اعتبار حركة اليد علة لحركة المفتاح لأنهما متزامنان؟ فلا جواب لهم بعد ذلك ويعرف كل عاقل أن حركة اليد علة لحركة المفتاح مع أنهما يحدثان في زمن واحد، فالحاكم بهذا نسميه "العقل".


2- التناقض أصل عقلي
مثال آخر نحن نجد الدف‏ء والحرارة بالهواء ونتيقن أن البرودة غير موجودة في الهواء لوجود الحرارة فيه، وأن داخل الغرفة منور بالمصباح الكهربائي غير مظلم ولا يمكن أن تكون الغرفة مظلمة في نفس الوقت التي تكون مشرقة، ولا يمكن أن تكون دافئة في نفس الوقت الذي تكون فيه باردة، وهذا الحكم يعبر عنه بامتناع التناقض، فالتناقض محال ممتنع(الجمع بين النقيضين في زمن واحد من حيثية واحدة) فهذا الحكم بالامتناع والاستحالة في الجمع بين النقيضين من أين يعرف؟ فالحس أكثر ما يمكنه أن يعرف أن شيئاً ما موجود، أما أنه يستحيل أن يكون نقيضه موجوداً أيضاً فلا يدرك الحس ذلك، وبالعكس من ذلك فإن الحس ربما لا يجد شيئاً فيحكم بأنه غير موجود (إذا كان مثل هذا الحكم صحيحاً)، فهل يمكن أن يحكم بأنه يستحيل أن يكون موجوداً في نفس الوقت الذي هو غير موجود؟ فالحكم بالاستحالة من أي قوة قد صدر؟ ونحن نجد أمثال هذه الأحكام في أنفسنا وأمثال ذلك كثيرة كالحكم. بالإمكان وبالضرورة وبالامتناع فهذه أحكام عقلية، فالإمكان لا يدركه الحس وكذا في قولنا "إذا كانت النار موجودة كانت الحرارة موجودة بالضرورة" فهذه الضرورة كيف تدرك وبأي قوة مدركة؟ وكذلك في قولنا "إذا كانت العلة التامة موجودة يستحيل عدم وجود معلولها "فالحكم بالإمكان وبالضرورة وبالامتناع وما إلى ذلك من الأحكام التي هي كثيرة كل ذلك لا يدركها الحس مباشرة، فلنا قوة تدرك هذه المفاهيم والأحكام نسميها بالعقل. فالدليل على وجود العقل وجود هذه الأحكام التي لا يمكننا إنكارها، فبهذا البيان البسيط القريب من البديهي أو البديهي يمكننا إثبات قوة باسم العقل، لكن هذا العقل هو العقل النظري أي هو الذي يدرك وجود شي‏ء أو عدمه، فيدرك ما وقع وما سيقع.
أما القوة التي تحكم بالحسن والقبح، بالواجب وغيره، ب "ينبغي" أو "لا ينبغي" وأمثال هذه الأحكام، فهذه القوة التي تسمى بالعقل العملي أحياناً، ربما لا ينكره أولئك المفكرون رأساً إلا أنهم يقولون بأن تلك الأحكام الصادرة من العقل العملي إنما هي تعبيرات عن أحاسيس وطموحات وميول لأنفسنا. فنحن نود أن يكون القائل لنا صادقاً في قوله فنقول الصدق حسن، ونحن نود أن يُحسن الآخرون إلينا فنقول الإحسان حسن، ونحن نود أن لا يظلمنا أحد فنقول الظلم قبيح، فكل هذه الأحكام العملية تعبيرات عن أحاسيسنا وميولنا ولا نحكي عن حقائق ثابتة وراء ميولنا وأحاسيسنا فليس هناك شي‏ء في الواقع اسمه الحسن حتى يدركه العقل، فغاية ما يمكن أن يقال بشأن هذه الأحكام لا أن هناك حقائق ثابتة يدركها العقل العملي بل إنما هي أحاسيس ونزعات وميول وطموحات في نفوسنا فنعبر عنها بالأحكام العملية.


الغرب ومسألة القيم
ثم لم ينشأ من هذا مسألة الفرق بين الواقع والقيمة، فيقولون: الواقع هو الحقائق الثابتة الخارجة عن إدراكنا سواء أدركناها أم لم ندركها، سواء شعرنا بها أم لم نشعر بها، فليست تابعة لإدراكنا، إنما علينا اكتشاف تلك الحقائق الثابتة خارج أنفسنا وأذهاننا وظروف إدراكاتنا، هذا هو الواقع، والإدراك المطابق لهذا الواقع يسمى حقيقة فالحقيقة هي العلم المطابق للواقع، فهناك واقعيات، والحقائق هي علوم تتعلق بتلك الواقعيات مطابقة لها.
أما القيم فليس لها واقع وراء إدراكنا على ما يقول هؤلاء فلكل إنسان حكم قيمي هو الذي يدركه بالعقل العملي لكن هذه الأحكام إنما تحكي عن أحاسيس ومشاعر في أنفسنا، فليس في خارج نفوسنا وفي الواقع العيني المستقل عن إدراكاتنا شي‏ء يسمى بالحسن، أي الحسن الفعلي والخير الأخلاقي والفضيلة وإنما هي علاقة بين أحاسيسنا والأشياء الواقعية.
فإذا كان لنا ميل إلى هذا الواقع ونود تحقيقه نقول يجب وينبغي وأما إذا لم يكن لنا ميل إليه نقول لا يحسن ذلك وإذا كنا ننفر من فعل بعض الأمور نقول يقبح، فكلمة القبح تعبر عن نفرتنا وعن الإحساس الموجود في أنفسنا لا عن شي‏ء آخر نكتشفه. فالحسن والقبح والواجب وغيره وما إلى ذلك من الأحكام العملية العقلية ليس لها واقع عيني موضوعي إنما هي أحكام ذاتية.
هذه النظرية شائعة في المدارس الفلسفية الغربية شيوعا واسعاً. والمفاهيم الدينية من وجهة نظر الثقافة الغربية الحديثة هي من هذا القبيل، ويعبرون عن هذه الأحكام الدينية بالأحكام الاعتبارية ويقولون أن الأحكام الاعتبارية لا واقع لها ولا حقيقة لها، فالحقيقة هي الإدراك المطابق للواقع، فإذا لم يكن هناك واقع وإنما هو علاقة بين أنفسنا وشي‏ء آخر فليس له حقيقة أي لا يصل إلينا علم مطابق له، فلا معنى للمطابقة وعدمها، لأن المطابقة هي توافق شي‏ء مع شي‏ء آخر فإذا لم يكن هناك شي‏ء آخر باسم الوجوب فإدراك الوجوب ليس إدراكاً مطابقاً لواقع الأمر، وحيث لا يكون مطابقاً فلا يسمى بالحقيقة، فلا مجال للاتصاف بالحقيقة أو لا حقيقة، نعم تتصف الأحكام النظرية بالحقيقة أو غير الحقيقة أما القيم فلا تتصف بالحقيقة وإنما تعبر عن إحساسنا. فهذه مسألة هامة جداً وهي مبنى لكثير من الأبحاث الفلسفية العميقة والتي لها دور أساسي في الفكر البشري في هذا العصر وخصوصاً بالنسبة إلى المفاهيم الدينية لأن أكثر القضايا المتصلة بالدين هي في الواقع أحكام قيمية سواء في حقل الأخلاق أو القوانين الاجتماعية أو الأحكام المتعلقة بالأسرة أو بالرب تبارك وتعالى.
فالمسائل العبادية تدخل في حقل القيم كقولنا يجب، يستحب أو ما يقابلها ك يحرم، يكره، فإذا قبلنا بأن الأحكام العملية لا واقع ولا حقيقة لها إنما هي تعبيرات عن أحاسيس وآداب وتوافقات بين أشخاص وأقوام ليس وراءها شي‏ء آخر فيسهل الأمر بالنسبة إلى الأحكام الدينية. ومن هنا تطرح مسألة شائعة اليوم باسم التساهل والتسامح، والأصل فيها أن أحكام القيم حسب نظرهم هي اعتبارات لا ينبغي التشدد فيها، فلكل قوم ما يحلو لهم من فعل خاص وآداب خاصة ومناسك خاصة فليفعلوا ما يشاؤون فلا مشاحة في هذه الآداب التوافقية والاعتبارات، فليتساهل الناس في هذه الأمور، إنما محل التشدد هو في الواقعيات ومصب العلوم التجريبية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد