قرآنيات

في رحاب سورة الفلق: كيف نتحرز من شرور الدنيا؟ (2)


{ومن شر النفاثات في العقد}
هنا خطر جديد نبَّه الله الناس أن يحذروه ويلتجئوا إليه ليحميهم منه، وهو السحر والشعوذة.
فالنفث مزيج من النفخ والبصق، حيث كان العرب يستخدمون نوعاً من السحر من ضمن أعماله أن يعقدوا خيطاً وينفثوا فيه.
وقد أتت الآية على ذكر هذا الضرب من السحر كمثال وإشارة إلى السحر بضروبه كلها، ومنه ما تعارف عليه الناس في زماننا هذا باسم (الكتبة).
فهذا العمل ضار بصريح النص القرآني {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} .
ومن جهة أخرى فإن هؤلاء السحرة يوهمون الناس أن بيدهم إصلاح أحوالهم وحل مشاكلهم ، فيلجؤون إليهم بدل أن يلجؤوا إلى الله مولاهم الحق، ويكون ذلك منقصة في دينهم.
أما لماذا قال {النفاثات} بالمؤنث؟ فلأن  السحر والشعوذة غالباً من اهتمامات النساء، إما لجلب محبوب أو لضرر محسود أو مبغوض، لضعف المرأة عن الضرر الجلي، وكثرة المشاحنات والمناكفات في علاقاتها العائلية والاجتماعية.  وهو أمر يلاحظه بالوجدان كل من تتبع أحوال المجتمع.
وهناك مذهب آخر ذهبه بعض المفسرين يعلل استخدام صيغة المؤنث، وهو أن الاستعاذة من المرأة التي يعقد الرجل العزم على طاعة أو عمل مفيد، فتبقى تنفث في أذنه وتمنّيه وتأخذه بالعاطفة حتى تحل عزمه.
ولمثل هذا المعنى ورد عن الرسول الأكرم ص:>شاوروهن وخالفوهن<
وقد يكون المعنى أعم؛ فالمرأة لضعفها لا تكيد بالقوة والمجابهة، بل تعمد إلى الحيلة والفتنة، وهذا سلاح أخطر من سلاح القوة الذي يستعمله الرجل، فهي تنفث في العقد، بمعنى أنها تزيد المشاكل تعقيداً.
وقد استعظم الله في كتابه كيد المرأة على لسان عزيز مصر حيث قال:{ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}  
فقد يكون المقصود في الآية: ومن شر النساء ذوات الكيد.
وهذا المعنى يتضمَّن المعاني السابقة، فهي مصاديق لهذا الكيد.
{ومن شر حاسد إذا حسد}
هنا خطر جديد لعله من أعظم الأخطار وهو الحسد.
وهو تمني زوال النعمة عن الغير، سواء مع تمني الحصول عليها أو عدمه. وهو مذموم وقبيح.
ويقابله الغبطة وهي تمني الحصول على مثل نعمة الغير دون زوالها عنه. وهي محمودة لأنها تدفع الإنسان نحو التطور ليصل إلى ما وصل إليه غيره.
والشرور الناجمة عن الحسد كثيرة:
 فالحاسد بمجرد نظره بعين الحسد قد يسبب الضرر ولذا قال أمير المؤمنين ع :>الْعَيْنُ حَقٌّ والرُّقَى حَقٌّ والسِّحْرُ حَقٌّ  والْفَأْلُ حَقٌّ والطِّيَرَةُ لَيْسَتْ بِحَقٍّ<
وقد روى أَنَس : أنَّ النَّبيَّ ص قَالَ : > مَنْ رأَى شَيئاً يُعْجِبُهُ فَقَالَ : الله الله ، ما شَاءَ الله ، لا قوَّةَ إلاَّ باللهِ ، لَمْ يَضُرَّهُ شيئاً<
والحسد كثير المضار شديد الخطر لذا قال عنه رسول الله ص:>كاد الحسد أن يغلب القدر<
وقد دلنا أهل البيت عليهم السلام على علامات في الحاسد نعرفه من خلالها فنتحرز من حسده؛ فقد ورد في كتاب الجعفريات عن الإمام جعفر بن محمد، عن أبيه ، عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب  ع قال : > للحاسد ثلاث علامات : يتملق إذا شهد ، ويغتاب إذ غاب ، ويشمت بالمصيبة< .
هذه الصفة لا يمكن أن تكون في مؤمن فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق ، عن أبيه ‘ قال : لا يؤمن رجل فيه الشح والحسد والجبن ولا يكون المؤمن جبانا ولا حريصا ولا شحيحا< .
وأما القيد المذكور في ذيل الآية {إذا حسد} فلأنَّ الحسد حالة اضطرارية نفسية ، ولكن الشر هو في ظهورها عملياً فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق ع قال : >ثلاثة لم ينج منها نبي فمن دونه : التفكر في الوسوسة في الخلق – وهي التساؤلات التي تعرض للإنسان حول الوجود والخالق- والطيرة – وهو التشاؤم من بعض الأشياء- والحسد إلا أن المؤمن لا يستعمل حسده< .
فما نستعيذ منه في الآية الكريمة هو انعكاسات الحسد العملية من أذىً نفسي وأذىً جسدي ممكن أن يدفع الحسد صاحبه لإلحاقه بنا.
الجانب العملي للاستعاذة:
هناك إشارة هامة تتعلق بالجانب العملي للاستعاذة.
فالمعنى الذي تلقيه في روعنا السورة المباركة أن احتياطاتنا وأرقنا في الليل خوفاً من مخاطره لن تنجينا أو تحمينا منها، بل اللجوء إلى الله تعالى.
وكذلك فإن المطلِّعين لن يحمونا من كيد السحرة بل الاستعاذة بالله والاحتجاب كما أمرنا.
والتمائم والقطع التقليدية لن تجعلنا بمنأى من الحسد بل التوكل على الله والاستعانة به والتعوذ بكتابه.
فالاستعاذة لا تتحقق فعلاً إلا إذا لجأ الإنسان إلى الله تعالى في حمايته وليس إلى الخرافات والأوهام.
وأهم عنصر في هذا التحرز هو الإيمان الحقيقي بالله المتجلي في التوكل واليقين ، فهو الذي يضعنا في حصن الدفاع الإلهي. وتجنب الصفات التي تخرجنا من روضة الحب الإلهي فيمقتنا الله ويرفع عنا لطفه.
إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد