علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ عبدالهادي الفضلي
عن الكاتب :
الشيخ الدكتور عبدالهادي الفضلي، من مواليد العام 1935م بقرية (صبخة العرب) إحدى القرى القريبة من البصرة بالعراق، جمع بين الدراسة التقليدية الحوزوية والدراسة الأكاديمية، فنال البكالوريوس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية ثم درجة الدكتوراه في اللغة العربية في النحو والصرف والعروض بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، له العديد من المؤلفات والمساهمات على الصعيدين الحوزوي والأكاديمي.rnتوفي في العام 2013 بعد صراع طويل مع المرض.

تاريخ أصول البحث


الشيخ عبد الهادي الفضلي ..
يرتبط تاريخ المنهج بتاريخ التفكير، ذلك أن البحث يعني التفكير والمنهج يعني الطريقة، وكل تفكير ـ بدائياً كان أو غير بدائي، أصيلاً أو غير أصيل ـ لابد من اعتماده على طريقة تساعده في الوصول إلى النتيجة.
ومن هذا نستطيع أن نقول: إن المنهج كان توأم التفكير في الولادة، فإذن هو قديم قدم التفكير.
وفي ضوئه يأتي التأريخ لنشوء وتطور الفكر البشري تأريخاً لنشوء وتطور المنهج.
يذهب علماء المنهج متأثرين بما انتهى إليه علماء الإنسانيات من نتائج في دراستهم لنشوء وتطور الفكر الإنساني إلى أن الفكر البشري مر بثلاث مراحل، وفي كل مرحلة منها كان للإنسان منهجه الذي يلتقي وطبيعة المرحلة.


1) مرحلة الأسطورة Myth:
ولكي نتفهم واقع هذه المرحلة لابد من تحديد المراد بالأسطورة، وبيان مدى علاقة الدين بها، ومن ثم ننتقل إلى تعرف المنهج الذي كان يعتمده الإنسان الأسطوري في تفكيره.
يعرّف ابن منظور الأساطير بأنها الأباطيل، وبأنها أحاديث لا نظام لها.
وهي من الكلم المعرَّب عن (اسطوريا istoreya) السريانية، التي هي بدورها مأخوذة من اليونانية، وهي فيها (هستريا)، فحوّلها نظام التقارض اللغوي إلى (اسطوريا) في السريانية، وحوّل (اسطوريا) إلى (اسطورة) في العربية.
وجاء في بيان أسباب نزول الآية الكريمة: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إنْ هذا إلاّ أساطير الأولين)، أن النضر بن الحارث الذي تعلم أحاديث ملوك فارس في الحيرة، كان يجلس في موضع مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا غادره، ويحكي للناس أحاديث رستم واسفنديار، وهما من أبطال الفرس الأسطوريين ليشكك الناس في أن قصص القرآن وأحاديثه من هذا.
وعلمياً عرّفت الأسطورة بأنها حكاية تقليدية تروي أحداثاً خارقة للعادة أو تتحدث عن أعمال الآلهة والأبطال.
"وبدأ التفسير الحديث للأسطورة في القرن التاسع عشر مع المستشرق والعالم اللغوي البريطاني ماكس مولر الذي صنف الأساطير وفقاً للغرض الذي هدفت إليه" و"اعتبرها تحريفات لغوية".
"ثم جاء العالم الأنثربولوجي والباحث الفولكلوري البريطاني السير جيمس جورج فريزر فربط الأسطورة بفكرة الخِصْب في الطبيعة".
"وثمت تفسير يرى أن الأسطورة ابتكرت للإِبانة عن الحقيقة في لغة مجازية ثم نسي المجاز وفسرت حرفياً...
ولا يسلّم علماء الإنسان القديم الآن بنظرية واحدة تطبق على كل الأساطير، والأصح عندهم التفسير الخاص بأساطير كل أُمة".
ولأن الأسطورة حكاية تروى أو تنقل بوساطة الرواية، يكون منهجها هو النقل.
وهذا ـ بدوره ـ يكشف لنا أن المنهج النقلي أقدم المناهج وأسبقها من ناحية تاريخية.
أما عن علاقة الدين بالأسطورة فتقول (الموسوعة العربية الميسرة ط 2ـ 1972م ـ ص148): "وبين الأسطورة والدين علاقة، وكثيراً ما تحكي الشعائر أحداث أسطورة".
وهي تشير بهذا إلى معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء أمثال: عمر نوح، وفوران التنور بطوفانه، وتحوّل نار النمرود مع إبراهيم إلى برد وسلام، وقصة قصر بلقيس، وعصا موسى، وكذلك خلق الكون والخ...
فإن جميع هذه وأمثالها كانت قبل التاريخ المدوّن، ولم نعثر على ما يشير إلى شيء منها من آثار، وإنما تعرفناها من الكتب الدينية والحكايات الأسطورية، وهي بهذا تدخل إطار الغيبيات، والعلم الحديث لا يؤمن إلاّ بالمشاهد والمحسوس، أو ما يمكن أن يخضع للملاحظة أو التجربة.
يقول (هيوم  Hume) ـ متأثراً بالمنهج التجريبي ـ: "لقد رأينا الساعات وهي تصنع في المصانع، ولكننا لم نر الكون وهو يصنع، فكيف نسلم بأن له صانعاً".
"ولذلك رأى أن العناية الإلهية وخلود النفس وسائر صفات الله وكل قصة الخلق كما تؤمن بها المسيحية وكل الأخرويات هي ـ في رأيه ـ مجرد خرافات".
ويقول (جوليان سوريل هكسلي): "تعتبر التطورات العلمية التي حدثت في القرن الماضي انفجاراً معرفياًKnowledge Explosion في وجه جميع الأساطير الإنسانية عن الآلهة والدين كما تفجرت الأفكار القديمة عن المادة ونسفت بمجرد تفجير الذرة".
فإذن أول ما وجد من المناهج قريناً للتفكير الإنساني ـ في ضوء هذا ـ هو المنهج النقلي.
غير أننا سنجد ـ فيما بعد ـ أن المناهج الثلاثة: النقلي والعقلي والتجريبي، ولدت في أحضان الدين، إلاّ أنها لم تأخذ شكلها الفني وطابعها العلمي إلاّ بعد نضج الفلسفة القديمة حيث ترسم المنهج العقلي طريقه بوضوح، وبعد استقلال العلم عن الفلسفة حيث شق المنهج التجريبي مجراه في التفكير البشري بعمق، وبعد تقعيد القواعد وتأصيل الأصول في العلوم الإسلامية حيث تأكد وتعمق المنهج النقلي مفهوماً، واستخداماً.


2) مرحلة الفلسفة Philosophy:
تعني الفلسفة بدراسة المبادئ الأولى للأشياء وحقائقها وعلاقة بعضها ببعض.
"وكانت تشمل العلوم جميعاً".
ثم انفصلت عنها العلوم الرياضية فسائر العلوم الأخرى، واقتصرت في دراساتها على الموضوعات التالية:
ـ المعرفة.
ـ الوجود.
ـ القيم الثلاث (الحق والخير والجمال).
والعلم الذي اختص بدراسة الحق هو علم المنطق، والذي اختص بدراسة الخير هو علم الأخلاق، وبالجمال هو علم الجمال أو الفن.
وكان علم المنطق يمثل منهج التفكير حيث يعني بدراسة قواعد التعريف وقواعد الإستدلال وقواعد تنظيم العلوم، التي استقلت ـ هذه الأخيرة ـ فيما بعد باسم (مناهج البحث).
فمناهج البحث التي ولدت في أحضان الفلسفة كان فرعاً من المنطق.
ولأن الفلسفة تقوم على أساس من التفكير العقلي، ويتوصل إلى نظرياتها وآرائها عن طريقه كان منهجها المنطقي عقلياً أيضاً.
فكانت الفكر المرحلي الذي تمخض عن المنهج العقلي.
وأخيراً، استقل علم المنطق عن الدرس الفلسفي، وكذلك استقل علم الأخلاق عنها، وتبعهما في ذلك علم الجمال، فأصبح كل واحد من هؤلاء الثلاثة علماً مستقلاً بذاته.
واختصت الفلسفة بدراسة (المعرفة) و(الوجود).
ثم وبعد ذلك انفصلت الدراسات المتأخرة بما يعرف بنظرية المعرفة.
واقتصرت الفلسفة على دراسة (ما بعد الطبيعة) أو ما يعرف ب‍ (الميتافيزيقا Metaphysics).


3) مرحلة العلم Science:
يراد بالعلم هنا: "المعرفة النظامية المنسقة المبنية على الملاحظة والإختبار"، وهو ما يعرف ب‍ (العلم التجريبي) في مقابل العلم بمعناه العام.
وتقتصر عناية العلم التجريبي على دراسة العناصر التي تتألف منها الأشياء وظواهرها على اختلاف أنماطها العلمية.
وقد مهد له ولإلغاء الاعتماد على المنهج العقلي حلول عصر الفلسفة الحديثة Philosophy modern الذي "يمكن القول: إنها بدأت مع الفلاسفة العقليين الذين جعلوا العقل الفرد القول الفصل في الحكم على الأشياء، وأبرز هؤلاء: ديكارت، وسبينوزا، ولايبتز، حيث جاء بعد هؤلاءِ الفلاسفةِ العقليين "الفلاسفةُ التجريبيون الذين قالوا: إن أصل المعرفة التجربةُ لا العقل.
وفي طليعة هؤلاء: جون لوك ودايفيد هيوم.
"وفي القرن السادس عشر، ومع غاليلو على وجه التحديد بدأ عصر العلم التجريبي Experimental Science ومنذ ذلك الحين طبق الإنسان الطرائق العلمية Scientific method في البحث.
وتقضي الطريقة العلمية الحديثة بدراسة الوقائع المشاهدة، ثم تفسير هذه الوقائع أو الظواهر بفرضية تتخذ منطلقاً لمزيد من البحث.
فإذا أيد الاختبار المكثف هذه الفرضية على نحو يخلو من جميع الثغرات الهامة أصبحت الفرضية نظريةtheory.
حتى إذا قام الدليل القطعي على صحة النظرية بحيث يتعذر وضع أية نظرية أخرى قادرة على تعليل نفس المعطيات أصبحت (النظرية) قانوناً Law.
ولكنها تبقى مع ذلك مجرد تعميم لبيّنة تجريبية، لا تقريراً لحقيقة سرمدية".
وكان هذا هو النضج الفكري الذي تبلور في جوّه وبوضوح المنهج التجريبي.


الدين Religion:
إن من الصعوبة بمكان أن يأتي الباحث بتعريفٍ للدين عام يشمل في عمومه جميع أنواعه.
ومرجع هذا هو اختلافها في المنشأ والوجهة.
ومن هنا رأيت أن أقسم الدين إلى أنواعه، ثم أعرّف كل نوع على حدة.
وبهذا اللون من السير في البحث نستطيع أن ندرك سبب المفارقة التي وقع فيها الباحثون الذين اعتدوا الدين من نوع الأسطورة أو السحر أو ما إليهما.
فمن خلال الواقع الذي عاشه الإنسان، ويعيشه على هذا الكوكب، بما خامر ذهنه من اعتقاد، وما ملأ وجدانه من إيمان نقف على الأنواع التالية للدين:
1ـ الدين الإلهي:
ويتمثل هذا في الشرائع الإلهية التي بعث الله تعالى بها الأنبياء كشريعة نوح وشريعة إبراهيم وشريعة موسى وشريعة عيسى وشريعة نبينا محمد (ص).
ومصدره: الوحي الإلهي.
2 ـ الدين البدائي:
ويتمثل هذا في معتقدات الشعوب البدائية من عبادة المخلوقات كالإنسان والحيوان والكواكب والأوثان وما إليها.
ومصدره: الوهم البشري.
3 ـ الدين الطبيعي (الربوبية deism):
وتعرّفه موسوعة المورد، بعامة ب‍ "الإيمان بالله من غير اعتقاد بديانات منزلة.
وبخاصة: مذهب فكري يدعو إلى الإيمان بدين طبيعي مبني على العقل لا على الوحي، ويؤكد على المناقبية أو الأخلاقية منكراً تدخل الله في نواميس الكون. وقد ظهرت الربوبية أول ما ظهرت في القرن السابع عشر. ويعتبر مونتيسكيو وفولتير وروسّو من أبرز الداعين إليها". ومصدره: العقل الفردي.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الدين البدائي، وإلى مناقضته وموازاته للدين الإلهي في (سورة الكافرون)، قال تعالى:
(بسم الله الرحمن الرحيم* قل يا أيّها الكافرون* لا أعبد ما تعبدون* ولا أنتم عابدون ما أعبد* ولا أنا عابد ما عبدتم* ولا أنتم عابدون ما أعبد* لكم دينكم ولي دين).


كما أنه سماه ديناً.
والخطأ في اعتداد الدين مطلقاً من الأساطير جاء من عدم التفرقة بين الأديان الإلهية والأديان البدائية للتشابه بين النوعين في ذكر الحوادث الخارقة للعادة أو لنواميس الطبيعة.
ومتى أدركنا الفرق في أن الأسطورة حادثة غير موثقة، أو على أقل تقدير أنها لم توثق، وأن المعجزة في الدين الإلهي حادثة موثقة، ندرك وجه المفارقة.
وهو أن مجيء المعجزة مشابهة للأسطورة إنما هو من باب المجاراة لمتطلبات الذهنية البشرية المعاصرة لها.
ولنأخذ مثالاً لذلك عصا موسى (ع) حيث جعلت السحرة يؤمنون بأن فعلها ليس من السحر في شيء لأنهم سحرة يدركون معنى السحر ويدركون الفرق بينه وبين ما سواه من أفعال، كما أنه ليس من فعل البشر ـ موسى أو غيره ـ وإنما هو من فعل قوة علياً قدرتها فوق قدرة البشر.
فالخبرة التي أفادها السحرة من تجاربهم في القدرة على التمييز بين ما هو سحر وما هو ليس بسحر، وتحكيم العقل قادتهم إلى الإيمان برب موسى. فالإيمان منهم جاء عن إخضاع الحادثة لتقييم الخبرة لها واختبارها في ضوء ما مروا به من التجارب. وهو معنى التوثيق للمعجزة.
(فأُلقى السحرة سجداً قالوا آمنا برب هارون وموسى* قال أمنتم له قبل أن أذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأُقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأُصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى* قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقضِ ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا* إنّا أمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى).
فقولهم: (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) هو التوثيق للحادثة الذي وصل بها إلى درجة الإيمان اليقيني بها، والارتفاع بها عن مستوى الأسطورة.
فالباحثون في المنهج إنما وقعوا في هذه المفارقة لأنهم اعتمدوا ما انتهى إليه (علم الاجتماع الديني) ـ وهو يدرس نشأة الدين ـ من أن الدين هو من وضع شعوب البدائية تحت ضغط أوضاع طبيعية أو اجتماعية معينة، فرضتها الظروف الراهنة آنذاك من غير أن يفرق بين البدائي منه والإلهي، فكان الخطأ المشار إليه.
ويكفينا هنا أن نذكر ما سجله (الكسيس كاريل) في كتابه (الإنسان ذلك المجهول) من ملاحظة علمية دقيقة على النتيجة التي أشرت إليها وأمثالها، قال: "يجب أن يفهم بوضوح أن قوانين العلاقات البشرية ما زالت غير معروفة، فإن علوم الاجتماع والاقتصاديات علوم تخمينية افتراضية".
ولا أعتقد أننا بعد أن نقرأ أمثال هذه الملاحظة يسوغ لنا أن نركن أو نتحاكم في تقييم أو تفسير أو تعليل قضايانا الدينية والفكرية إلى التخمين والإفتراض.


وأخيراً:
إننا نؤمن بأن معتقدات اتباع الأديان البدائية هي أساطير غير موثقة، وأباطيل مرفوضة. أما بالنسبة إلى الأديان الإلهية فنفترق في إيماننا بها عن اولئكم الباحثين الغربيين الذين لم يؤمنوا بالدين مطلقاً. ومن هنا نؤمن بأن عندنا بالإضافة إلى المنهج التجريبي المنهج النقلي والمنهج العقلي لأن الدين الإسلامي يؤمن بها جميعاً، كلاً في مجاله.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد