علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

فجوة هيغل، "دَنْيوَة" المطلق... وذريعة مكر العقل (1)

 

محمود حيدر 
هل نمضي إلى هيغل كمثل من مضوا إليه وهم على حذر مقيم؟
لسنا على يقين من أن هؤلاء جانبوا الصواب في ما حذَّروا منه. لكن سيبدو تحذيرهم كما لو كانوا يومِئون إلى مفزعةٍ معرفيّة ستواجه كل من شاء الدخول إلى عالم هذا الفيلسوف. وأنىَّ كان الأمر فمن المفيد للداخل إلى هذا العالم المكتظّ بالفجوات، ألاَّ يركن إلى البراءة وحسن الظن. ربما لهذا السبب سينعقد الرأي على أن من أبسط المآخذ على هيغل أنه اقترف كتابةً غلب عليها الغموض والتعقيد وعسر الفهم.
تلقاء ما تقدم سوف نقترب على نحو الإجمال من أبرز الأنحاء المؤسٍّسة للميتافيزيقا الهيغلية بوجهيها الانطولوجي علم الوجود والابستمولوجي علم المعرفة.


يتّخذ هيغل من الديالكتيك دُربةً لفهم العالم وكشف أحاجيه. ألا أنّه لم يجر في دربته مجرى الحكيم اليوناني هيراقليطس حيث أسس للجدل كصراط لفهم الكون بوصفه انسجاماً محضاً لا تفاوت فيه. ومع أن أثر هيراقليطس حاضرٌ بعمق في نظام هيغل الفلسفي إلا أن الأخير خالفه في مذهبه. بدل أن يمضي هيغل بجَدَلهِ نحو الانسجام والتكامل في نظام الوجود، سينتهي أمره إلى الوقوع في مَصْيَدة النقائض. ومع أنه ابتنى استراتيجيته المعرفية على مبدأ التضادّ بين الأشياء والأفكار، إلا أن هذا المبدأ لا يلبث أن ينتهي إلى تناقض صريح. كلّ شيءٍ – عند هيغل- يريد نقض نفسه ونقض نقيضه الذي يفعل بدوره الشيء نفسه. ولـمَّا كانت النتيجة أن النقيضين لن يجتمعا أبداً، رأى أن يكون الحل بثالث يولد من النقيضين ويلمُّ شملهما. سوى أن المعادلة الهيغلية عادت لتستولد مجدداً محنة الاجتماع المستحيل للنقائض. فلربما غاب عن هيغل في هذا الموضع أن يميز بين نوعين من التضاد: أحدهما تضاد يستحيل الجمع بين طرفيه في شيءٍ واحدٍ، وتعريفه مذكورٌ في علم المنطق، والآخر تضادٌّ يستوى على اجتماع أمرين في شيءٍ واحدٍ لكنّهما على تنافرٍ متواصلٍ. سوى أن اجتماعهما في شيءٍ واحدٍ ليس بمستحيل. ولنا أن نقول بناء على هذا، أن عدم التمييز بين هذين النوعين سيغدو أحد أبرز المشكلات في مجمل عمارته الفلسفية.


من بعدِ ما أضناه مبحثُ الوجود بذاته سيعرض هيغل عن ورطته اللاهوتية ليحكم عليه بالخلاء المشوب بالعدم. فلا وجود عنده إلا ما هو ظاهرٌ وواقعٌ تحت مرمى الأعين. وفي هذا لم يأتِ بجديد يَفْرُق بينه وبين السلف. ليس ثمة على ما يبدو من مائز جوهري معهم. أخذ عنهم دربتهم ثم عكف على مجاوزتهم حتّى اختلط الأمر عليه حدّ الشبهة. آمن هيغل بالوجود ثم أخضعه للديالكتيك على خلاف ما استلهمه من جوهر الإيمان المسيحي. هو لم يفعل ذلك من أجل توكيد كفاية الوجود لذاته بذاته، بل للتقرير أنه متناقض في ذاته. ومعنى هذا –كما يبيِّن في مدّعاه- أن وجود المجرّد – قبل وجود الطبيعة – يحتمل ألا يكون موجوداً وموجوداً في الآن عينه. أي أنّه ينطوي هو نفسه على الوجود واللاوجود في الآن عينه. والحال فقد اصطدم كل من هذين النقيضين في نظامه الفلسفي لينجم من ذلك أن تحوَّلَ فكرُه بكامله إلى العكوف على ظواهر الموجودات، ثم ليسري مذهبه التناقضي إلى كل موجود، سواء كان طبيعة أم إنساناً أم مجتمعاً. 


من المفيد للذكر.. أن إحدى أبرز النظريّات التي طرحها هيغل هي نفي (الوجود المحض) جملةً وتفصيلاً. ذلك لاعتقاده أن كلّ وجودٍ إنّما ينشأ إثر تركيبه مع العدم. بمعنى أنّ الوجود والعدم يجتمعان مع بعضهما ليتمخّض عنهما الوجود الطبيعي. ولقد سعى الرجل إلى توليفٍ ملتبسٍ يجتمع فيه الضدان والنقيضان، ثم ليكون هذا التوليف مؤسَّساً على فرضيتين أساسيتين: 
مؤدى الأولى: أن كل شيء يكون موجوداً ومعدوماً في آن واحد.
ومؤدى الثانية: أن التناقض في الموجودات هو أساس حركتها وتكاملها. 


نظرية كهذه، هي في عين كونها فلسفيِّة هي منطقيّةٌ أيضاً. وتلقاء سعيها لبيان حقائق الأشياء، تروح هذه النظرية تسلّط الضوء على قانون عمل الفكر. وإفصاحاً لمقصده يرى هيغل كلّ أمرٍ ذهنيٍّ هو أمرٌ واقعي في المقابل يرى عكس ذلك صحيحاً. ما يعني اعتقادُه بوجود نحوٍ من التطابق بين الذهن والواقع الخارجي.
المعترضون على هذا التنظير يقولون: ليس من شأن العدم أن يتّصف بالوجود على أرض الواقع باعتباره نقيضاً له، لذا لا يمكن تصوّر حدوث انسجامٍ واتّحادٍ بينهما. بناءً على ذلك، سيخطئ هيغل ومن تَبِعُه لـمَّا قالوا إنّ اتّحاد الوجود والعدم في (الصيرورة) يدخل في أصل اجتماع النقيضين واتّحادهما مع بعضهما. فهذه الصيرورة تنقض مبدأ امتناع اجتماعهما.

لعل أقصى ما بلغه هيغل في ميتافيزيقاه هو الوقوف عند المطلق كظهور للواقع، بما ينطوي عليه من روح لا متناهي. والمطلق حسب هيغل واحد وهو الشيء ذاته أبدياً، وعليه فإن كل عقل معين تاريخياً ينظر إلى ذاته ويدركها، ينتج فلسفة حقيقية ويقرر مهمة تشبه قراره. وهذه المهمة هي الشيء نفسه في جميع الأوقات. وما ذلك إلاَّ لأن قدر العقل المدرِك – ذاتياً أن يعمل في الفلسفة مع ذاته وحدها، حيث إن كلية عمله، مثل نشاطه، تكمن في ذاته. المطلق هو الذات بلا منازع في فلسفة هيغل. إنه مبدأ الهوية الكامن خلف كل التعددية الظاهراتية – التاريخية. وأما الفلسفة فهي الإدراك لهذا المطلق في التحقق – الذاتي. لذا سيقال إن الفلسفة الهيغلية تشكل في جوهرها كلية ديناميكية لحركة المطلق التي تعبر التاريخ بحركة دائرية لا مستقيمة. ونهاية حركة هذا المطلق محتواة ومتضمنة في بداية المطلق نفسه.

والفرق بين البداية والنهاية هو فقط الفرق بين الفورية والتوسطية. ولذا فالهيغلية هي فلسفة تظهير صيرورة إدراك – الذات عند المطلق. فهيغل ينظر إلى كل الواقع – الطبيعي، البشري، والفكري – انطلاقاً من علاقته بالمطلق ومن أجله. هذا المطلق الواقعي عند هيغل ميسور إدراكه ومعرفته. ولقد انفرد بهذا المدَّعى لينقض ما ذهب إليه الأسلاف من أرسطو إلى كانط من أن النومين (الشيء في ذاته) موجود ألا أنّه يتعذّر إدراكه نظرياً أو في حقل التجربة. وحجة هيغل أن المطلق الذي ينشده يتأبَّى مفارقة العقل. فهو معقول في استتاره وظهوره بوساطة العقل الكلي. وهذا العقل هو ما يفتح السبيل إلى معرفة المطلق ما دام هذا الأخير ماكثاً في ذات العقل نفسه. لذلك اعتقد هيغل أن تاريخ الوعي الإنساني هو انعكاس لتاريخ وعي الروح المطلق عن ذاته. وأن تطوّر الوعي الإنساني يتجسّد موضوعيّاً في عدد من الفعاليّات والحركات التاريخيّة والإبداعات الروحيّة ذات الطابع الملموس.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد