من التاريخ

أيام العرب وحروبها

شوقي ضيف

حروب وأيام مستمرة:

لعل أهم ما يميز حياة العرب في الجاهلية أنها كانت حياة حربية تقوم على سفك الدماء حتى لكأنه أصبح سُنَّة من سننهم؛ فهم دائمًا قاتلون مقتولون، لا يفرغون من دم إلا إلى دم؛ ولذلك كان أكبر قانون عندهم يخضع له كبيرهم وصغيرهم هو قانون الأخذ بالثأر؛ فهو شريعتهم المقدسة، وهي شريعة تصطبغ عندهم بما يشبه الصبغة الدينية؛ إذ كانوا يحرمون على أنفسهم الخمر والنساء والطيب حتى يثأروا من غرمائهم. ولم يكن لأي فرد من أفراد القبيلة حق ولا ما يشبه الحق في نقض هذه الشريعة ولا في الوقوف ضدها أو الخروج عليها، فما هي إلا أن يُقْتَل أحد منهم؛ فإذا سيوف عشيرته مسلولة، وتتبعها العشائر الأخرى في قبيلته، تؤازرها في الأخذ بثأرها، ويتعدد القتل والثأر بينها وبين القبيلة المعادية، وتتوارثان الثارات حتى يتدخل من يصلح بينهما ويتحمل الديات والمغارم، ولم يكونوا يقبلونها إلا بعد تفاقهم الأمر وإلا بعد أن تأتي الحرب على الحرث والنسل. أما قبل ذلك فكانوا يعدونها سبة وعارًا وفي ذلك يقول عبد العزى الطائي(1):

إذا ما طلبنا تَبْلَنا عند معشَرٍ        أبينا حِلاب الدَّرِّ أو نشربَ الدَّما(2)

فهم لا يرضون بالدية ويرونها ذلًا ما بعده ذل أن يستبدلوا الدم بالإبل وألبانها؛ فالدم لا يشفيهم منه إلا الدم، وكأنما أصبح سفكه غريزة من غرائزهم لا تزايلهم؛ فهم يطلبونه وهم يتعطشون إليه تعطشًا شديدًا على شاكلة تأبط شرًّا إذ يقول(3):

 قليلُ غرار النوم أكبر همه     دم الثأر أو يلقى كميًّا مُسَفَّعا

فأكبر ما يهتم به وينصب له طلب الثأر ولقاء بطل سفعت وجهه الهواجر. وأكثر حروبهم كان يجرها نزاع بين بعض الأفراد في قبيلتين مختلفتين؛ إما بسبب قتل أو بسبب إهانة، أو بسبب اختلاف على حد من الحدود، وحينئذ تشتبك عشيرتا هؤلاء الأفراد، وتنضم إلى كل عشيرة عشائر قبيلتها، وقد تنضم أحلافهما، فتنتشر نيران الحرب بين قبائل كثيرة، وصور ذلك شاعر الحماسة؛ إذ يقول(4):

الشيء يبدؤه في الأصل أصغره     وليس يصلى بكل الحرب جانيها

والحرب يلحق فيها الكارهون كما   تدنو الصحاح إلى الجربَى فتُعْديها

فهي تبدأ صغيرة ضعيفة، ثم تقوى وتستحكم وتعظم بمرور الزمن؛ فتصبح لها عدوى كعدوى الجرب، لا يفلت منها راغب فيها ولا كاره؛ فالجميع يصطلون بنارها، بل يترامون فيها ترامي الفراش، فهي أمنيتهم ومبتغاهم، يقول زهير(5):

إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم طوالَ    الرماح لا ضعافٌ ولا عُزْل(6)

فإن يُقْتَلوا فيُشْتَفى بدمــائهم وكــــانوا     قديمـًا من منايـــاهم القتـــــلُ

فجميعهم يطيرون إلى المستغيث بخيلهم ورماحهم، وتدور رحى الحرب فيقتلون من أعدائهم ويشفون حقدهم ويقتل منهم أعداؤهم ويشفون غليلهم. يقول دريد بن الصمة(7):

وإن لَلَحْــمُ السيفِ غيـــرَ نَكيرةٍ        ونُلحمه حينًا وليس بذي نُكْرِ(8)

يُغــار علينا واترين فيشتفى بنا        إن أصبنا أو نغير علــى وتر(9)

قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا    فما ينقضي إلا ونحن على شطر

ومثل قبيلة دريد قبائلُ العرب جميعها؛ فهم طعام السيوف، يطعمونها أعداءهم، ويطعمهم أعداؤهم لها في غير نكران؛ فهم دائمًا واترون موتورون، وحياتهم مقسومة على هذين الحدين وإلى هذين الشطرين. ولم يكونوا يرهبون شيئًا مثل الموت حتف الأنف بعيدًا عن ميادين القتال، ميادين الشرف والبطولة؛ حيث يموتون طعنًا بالسيوف والرماح، وحيث تتناثر أشلاؤهم وتأكلها السباع، يقول الشنفري(10):

ولا تقبروني إن قبري محرم    عليكم ولكن أبشرِي أم عامر

فهو يتمنى أن لا يقبر، وأن يترك بالعراء في ساحة الحرب تنوشه السباع، ويبشر أم عامر وهي الضبع بجسده، حتى يخلد في سجل قتلى الجاهلية المجيد، وكانوا يسمون حروبهم ووقائعهم أيامًا؛ لأنهم كانوا يتحاربون نهارًا؛ فإذا جنهم الليل وقفوا القتال حتى يخرج الصباح. وأيامهم وحروبهم كثيرة، وهي تدور في كتب الأدب والتاريخ، ويقال إن أبا عبيدة المتوفى سنة 211 للهجرة صنف في ألف يوم ومائتين منها كتابًا اعتمد عليه من جاءوا بعده، ولم يصلنا هذا الكتاب؛ وإنما وصلنا شرحه لنقائض جرير والفرزدق وفيه طائفة كبيرة منها. وألف فيها من بعده كثيرون أحصاهم ابن النديم في المقالة الثالثة من الفن الأول بكتابه الفهرست. وفي كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وشرح حماسة أبي تمام للتبريزي منثورات منها كثيرة. وعقد لها ابن عبد ربه في العقد الفريد وابن الأثير في الجزء الأول من كتابه الكامل والنويري في نهاية الأرب فصولًا طويلة، وكذلك صنع الميداني في الفصل التاسع والعشرين من كتابه مجمع الأمثال؛ إذ تناول منها مائة واثنين وثلاثين يومًا ضبط أسماءها وذكر القبائل التي اشتركت في كل منها.

وتسمَّى هذه الأيام والحروب غالبًا بأسماء البقاع والآبار التي نشبت بجانبها مثل يوم عين أباغ، وكان بين المناذرة والغساسنة ومثل يوم ذي قار وكان بين بكر والفرس ويوم شعب جبلة وكان بين عبس وأحلافها من بني عامر وذبيان وأحلافها من تميم. وقد تسمى بأسماء ما أحدث اشتعالها مثل حرب البسوس وحرب داحس والغبراء.

ومن أيامهم المشهورة يوم خزاز وكان بين ربيعة واليمن من مَذْحج وغيرهم ويوم طخفة بين المنذر بن ماء السماء وبني يربوع، ويوم أوارة الأول بينه وبين بني بكر ويوم أوارة الثاني بين ابنه عمرو بن هند وبني تميم، ويوم ظهر الدهناء بين بني أسد وطيء، ويوم الكلاب الأول بين بني بكر وعشائر من تميم وضبة بقيادة شرحبيل بن الحارث الكندي وبين تغلب والنمر وبهراء بقيادة أخيه سلمة، وأيام الأوس والخزرج ومر ذكرها في غير هذا الموضع، ويوم حوزة الأول بين سليم وغطفان، ويوم اللوى بين غطفان وهوازن ويوم الكلاب الثاني بين تميم وبني عبد المدان النجرانيين ويوم الوقيط بين تميم وربيعة، وكذلك يوم جَدود وذي طُلوح والغبيط وزبالة ومبايض والجفار. ويوم الرحرحان بين قيس وتميم، وكذلك الصرائم والمروت والنسار. ويوم الشقيقة بين ضبة وبني شيبان، ويوم بُزاخة بين ضبة وإياد ويوم دارة مأسل بينها وبين بني عامر. وكانوا لا يقتتلون في الأشهر الحرم.

أما حرب البسوس:

فقد اشتعلت بين قبيلتي بكر وتغلب في أواخر القرن الخامس الميلادي. وكان سببها اعتداء كليب سيد تغلب -وكان قد طغى واشتد بغيه- على ناقة للبسوس خالة جساس بن مرة سيد بني بكر؛ إذ رمى ضرعها بسهم، فاختلط لبنها بدمها. ولما علم جساس بما حدث؛ ثأر لكرامته، وسنحت له فرصة من كليب فقتله، ودارت رحى حرب طاحنة ظلت -فيما يقال- أربعين سنة؛ فكثرت أيامها مثل يوم عُنَيْزة وكان سجالًا بين الطرفين، ويوم واردات وكان لتغلب على بكر ويوم قضة "تحلاق اللمم" وفيه انتصرت بكر. ولما أنهكت الحرب الفريقين لجأ إلى الحارث بن عمرو الكندي؛ فأصلح بينهما، وأقام كما مر بنا على بكر ابنه شرحبيل وعلى تغلب ابنه سلمة. ونمت في العصور الإسلامية أساطير حول هذه الحرب وبطلها التغلبي المهلهل أخي كليب، وألفت عنه قصة شعبية باسم "الزير سالم".

وأما حرب داحس والغبراء:

فكانت في أواخر العصر الجاهلي، وكان السبب في نشوبها سباقًا على رهان بين الفرسين، فسميت باسميهما، وكان قد أجراهما سيدا عبس وذبيان: قيس بن زهير، وحذيفة بن بدر، وأوشك داحس أن يفوز؛ غير أن رجلًا من ذبيان كان قد كمن له، فاعترضه ونفره؛ فعدل عن الطريق. وبذلك سبقته الغبراء، وأبى قيس أن يعترف بهذا السبق وطلب الرهان المضروب. وحدث صدام بين الفريقين لم تلبث الحرب أن اندلعت على إثره، وظلت سنوات طويلة حتى تدخل سيدان من ذبيان هما هرم بن سنان والحارث بن عوف المري. فتحملا ديات القتلى؛ وبذلك وضعت الحرب أوزارها بين القبيلتين ومن كان قد انضم إليهما من الأحلاف؛ فقد انضمت عامر إلى عبس بينما انضمت تميم وأسد إلى ذبيان. وعلى نحو ما نمت الأساطير حول المهلهل بطل حرب البسوس نمت حول عنترة بطل هذه الحرب، وكان من عبس، فألفت عنه قصة شعبية مشهورة لا نبعد إذا قلنا إنها تحولت إلى إلياذة كبرى للعرب وفروسيتهم الرائعة.

_________

(1) حماسة البحتري "طبع بيروت" ص 28 وانظر 29، 31 والمرزوقي على الحماسة 1/ 215 - 216 وراجع المفضليات، القصيدة رقم 42 البيت 15 والأصمعيات القصيدة رقم 44 البيت 1، 2.

(2) التبل: الثأر، وحلاب الدر: كناية عن الإبل التي تحلب وتشرب ألبانها.

(3) المرزوقي على حماسة أبي تمام 2/ 492 وغرار النوم: قليله، والكمي: الشجاع.

(4) المرزوقي 1/ 407.

(5) ديوان زهير ص 102

(6) الأعزل مفرد عزل: من لا سلاح له، وفزعوا: أغاثوا.

(7) المرزوقي 2/ 825.

(8) نكيرة ونكر: نكران وامتراء، ونلحمه: نطعمه اللحم

(9) الوتر: الثأر، واترين: قاتلين ومسببين الوتر.

(10) المرزوقي 2/ 487.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد