فجر الجمعة

الشيخ الحبيل يتحدّث عن الأدوار العظيمة للإمام الصادق عليه السلام

في مسجد الخضر بجزيرة تاروت في القطيف، أمَّ سماحة الشيخ عبد الكريم الحبيل الناس في صلاة الجمعة الموافقة ليوم 24 شوال 1445هـ، وقد تناول في خطبته ذكرى استشهاد الإمام الصّادق عليه السّلام، متطرّقًا إلى أبرز الأدوار التي قام عليه السلام بها.

أيها الأخوة الكرام والأخوات المؤمنات تطل علينا في هذه الليلة، ذكرى استشهاد سيدنا ومولانا، أبي عبد الله الإمام جعفر بن محمد الصادق، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين.

في هذه المناسبة الأليمة، نتقدم برفع العزاء كلّ العزاء إلى مقام سيدنا ومولانا، صاحب العصر والزمان، وإلى مراجعنا العظام، وإلى أبناء الأمة الإسلامية كافة، وإليكم أيها الإخوة الكرام خاصةً، سائلين العلي القدير أن يعظم لنا ولكم الأجر، ويجزل لنا ولكم المثوبة، إنه سميع مجيب.

الإمام الصادق عليه السلام، هو الإمام السادس من أئمة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وُلِدَ سنة 80 للهجرة، واستشهد سنة 148 للهجرة على أصح الأقوال. وكانت شهادته على الأشهر في الخامس والعشرين من شهر شوال، كما هو أيضًا المعمول به لدى أكثر البلدان الشيعية في العالم الإسلامي، وهناك رواية أخرى بأن شهادته عليه السلام كانت في الخامس عشر من شهر رجب.

الإمام عليه السلام اضطلع بدور إسلامي عظيم كغيره من الأئمة العظام، وأتيحت له فرصة لم تتح لغيره من الأئمة، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، واغتنم الإمام عليه السلام تلك الفرصة عملاً بقول جدّه أمير المؤمنين عليه السّلام: اغتنموا الفرص فإنها تمرّ مرّ السحاب، فقام بواجبه في تلك الفترة التي كانت في آخر أيام الدولة الأموية وبداية قيام الدّولة العباسية، فالأولى كانت في أسوء أحوالها من حيث الزوال والانهيار، والثانية كانت في بداية تأسيسها مشغولة بنفسها، فاستغلّ تلك الفرصة واضطلع بالقيام بمهامه كإمام ومصلح ومبلّغ ومبيّن لأحكام الله سبحانه وتعالى.

وفي عصره ازدهرت علوم أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، حيث شيّد تلك المدرسة التي أرسى قواعدها الإمام الباقر عليه السلام. وقام الإمام الصادق عليه السلام بتشييد تلك المدرسة العلوية الجعفرية العظيمة، حتى ازدهرت ازدهارًا عظيمًا وذاع صيتها وقصدها طلاب العلم والمعرفة من كل أصقاع الدنيا. فازدحمت المدينة المنورة بالناهلين من العلوم والمعارف ولقد كثرت الروايات عن الإمام عليه السلام من الذين تتلمذوا على يديه، وسمعوا منه العلوم والمعارف والحديث، حتّى أنّ الشيخ المفيد، عليه أعلى الله مقامه، يروي أن عدد الرواة الذين رووا عن الإمام عليه السلام بلغوا ما يقارب 4000 عالم. ويقول ابن الوشّا، أو أبو الحسن الوشّا، "لقد أدركت في مسجد الكوفة 4000 عالم، كلّ يقول: "حدثني جعفر بن محمد".

ولقد ترجم علماؤنا الأبرار لعدد كبير من الذين نهلوا من نمير الإمام عليه السلام، وبلغ بعض مَن أحصاهم في عصرنا الحاضر من المؤلفين، ما يقارب 3000 عالم، الذين سجلت أسماؤهم في الكتب، طبعًا منهم الإمامي ومنهم غير الإمامي ومنهم الثقة العدل ومنهم غير الثقة.

من الأدوار العظيمة التي قام بها الإمام عليه السلام، تشييد وازدهار تلك المدرسة المحمدية الجعفرية.

ثانيًا، بناء مذهب أهل البيت في مقابل المذاهب الأخرى، وتبيين المذهب من الناحية العقدية والفكرية والفقهية والتفسيرية. فبيّن معالم مذهب أهل البيت عليهم السلام، عقيدتهم في الحق تعالى وتوحيده وصفاته والقضاء والقدر وفي الإمامة، أيضًا عقيدتهم في كتاب الله، وتفسير وبيان كثير من آيات كتاب الله التي وقع فيها الخلاف. فأجلى الإمام تلك المعالم، عقيدتهم في الإمامة وإمامتهم خاصةً، فبين الإمام معالم المذهب أيضًا، وعقيدتهم في ما يتعلق بالأمور التّشريعية التفريعية، ورسم معالم المذهب من حيث الجانب التفريعي، ووضع قواعد التشريع ونبذ الإمام عليه السلام القياس والمصالح المرسلة، ووضع معالم جديدة لاستنباط الأحكام لدى علماء المذهب الحق.

وبنى وبيّن وأرسى معالم مذهب أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم في جميع جوانبه، كذلك من الأدوار التي اضطلع صلوات الله وسلامه عليه، مواجهة التيارات المنحرفة في ذلك الزمان من المجبّرة والمرجّئة وواجهها الإمام عليه السّلام.

رابعًا، ربّى الإمام عليه السلام نخبة عظيمة من العلماء والأعلام، الذين برزوا في ذلك العصر، وأصبحوا من نجوم علماء المسلمين وكبارهم أمثال أبان بن تغلب وزرارة بن أعين وهشام بن الحكم وهشام بن سالم وغيرهم الذين ربّاهم الإمام عليه السّلام وأصبحوا نجومًا لامعة في المذهب.

وعندي ملاحظة للإخوة المؤمنين بالنسبة للعلاقة مع أئمة أهل البيت عليهم السلام، فالإجلال والإعظام لأئمة أهل البيت لا يكون بطريقة إتاحة الفرص، يعني الإمام الذي أتيحت له الفرصة فاضطلع بدور عظيم كبير، هذا الإمام نهتم بميلاه ووفاته، نعظمه بالحضور وما شابه ذلك والإمام الذي لم تتح له الفرص بسبب الإقامات الجبرية والقسر، هذا الإمام يصير حضورنا في وفاته بسيطًا وفي ميلاده كذلك ،كلّهم حجج الله تعالى وكلّهم في الفضل سواء إلا جدّهم أمير المؤمنين عليه السّلام فهو أفضلهُم، ونتعامل معهم بميزان واحد كلهم حجج الله سبحانه وتعالى، وإتاحة الفرصة لأحدهم لا يعني ذلك أننا نوليه اهتمامًا عظيمًا، والذي لم تتح له الفرصة لا نوليه الإجلال والإكبار والإعظام.

 أهم مميزات مدرسة الإمام عليه السلام، أولًا انفتاحها على جميع أبناء الأمة الإسلامية، لم تكن مدرسة خاصة بالمعتقدين بإمامة الأئمة عليهم السلام بل مدرسة قد نهل منها جميع أبناء الأمة الإسلامية ممن يعتقدون بإمامته وممن لا يعتقد بذلك، ممن يعتقدون بأن قوله وفعله وإقراره حجة عليه، وبين من لا يعتقد بذلك، كلاهما يجلس تحت منبر الإمام عليه السلام ذاك ينهل من علمه وذاك ينهل من علمه، ذاك يرى أن قوله حجة، وذاك لا يرى ذلك، أحدهما يتعمل مع الإمام على أنه إمام مفترض الطّاعة، وذاك يتعامل معه على أنه عالم كبير جئت أنهل من علمه.

فبعضهم كان يرى رأيه في المسائل العلمية والآيات القرآنية، أمّا زاراة مثلاً فعندما يقول له الإمام عليه السلام إن معنى الآية هو هذا، دلالته هي هذه، إن الحكم الشرعي الرباني في الموضوع المعين هو هذا، يقف ويسلم تسليم الطائع، المتلقي الحكم الشرعي عن حجة لله، لا يجوز الردّ عليه، ولا يجوز أن يقول قولاً في مقابل قوله، أمّا الذي يرى الإمام عالـمًا عظيمًا جئت أنهل من علمه، فإذا مثلاً سأل الإمام عن مسألة وحكم شرعي وقال له الإمام الحكم كذا، هو بعد ذلك يذهب ويبحث في الأحاديث والآيات والروايات، وإذا تبين له قول آخر فعندئذ قد يفتي بقول آخر على غير ما قاله الإمام لأنه لا يرى قول الإمام حجة عليه، هذان الصنفان اجتمعا تحت منبر الإمام عليه السلام، ونهلا من علومه ومعارفه على بساط المودة والمحبة والإخاء، ولهذا امتازت حوزاتنا العلمية إلى يومنا هذا، بأنه يقصدها طلاب العلوم من جميع أصقاع الدّنيا، ومن كلّ أبناء المذاهب الأخرى يأتون وينهلون من تلك الحوزات العلمية ويتعلمون ويدرسون.

درسنا في الحوزة العلمية في قمّ المقدّسة، فيها طلّاب من أكثر من خمسين دولة في العالم، من العالم الإسلامي وغير العالم الإسلامي وبعضهم من حملَة المذاهب الأخرى من أخواننا من أهل السّنّة، كذلك استقلال مدرسة الإمام عليه السلام وعدم تبعيّتها للسياسة الحاكمة في ذلك العصر، وهذا مما يعطيها الحرية الكاملة في اتّخاذ الآراء والمواقف والاستنباطات الشرعية، وهي غير مقيدة بأيّ توجه سياسي، ولهذا لا تزال إلى اليوم حوزاتنا العلمية تمتاز بهذه الميزة المباركة.

ثالثًا العمق الفكري المرتبط بالكتاب والسنّة، فمدرسة الإمام الصّادق عليه السلام ليست بمدرسة رأي وليست بمدرسة قياس كانت ذات عمق فكري مرتبط بكتاب الله وسنة رسوله نابعة من صميم الكتاب والسنة المطهرة.

رابعًا تميّزت تلك المدرسة بتخريج رموز علمية عملاقة في شتى المجالات، سواء الدينية أو علوم اللغة والتفسير والحديث والطبيعة والطبّ والكيمياء والفيزياء وغيرها من العلوم الأخرى، وتخصص في هذه العلوم نخبة من تلامذة الإمام كتبوا وألفوا، ولا تزال بعض كتاباتهم ورسائلهم موجودة إلى يومنا هذا.

خامسًا الاهتمام بالتدوين، الإمام حثّ طلابه على التدوين والكتابة، فاهتموا بالتأليف والكتابة، وما زال علماؤنا اليوم يتداولون تلك الكتب والرسائل التي كتبوها عن الإمام، وبعضها عرفت بالأصول الأربعمائة التي كتبت وعرضت على الإمام عليه السلام. ووصلت بعض تلك الكتب والأصول إلى عصر كتابة المجاميع الحديثية الكبيرة، مثل الشيخ الكافي والشيخ الصدوق والشيخ الطوسي، اللذين دونا المجاميع الحديثية الكبرى.

سادسًا، الانفتاح على مختلف فروع المعرفة، مدرسة الإمام عليه السلام تميزت بالانفتاح على مختلف فروع المعرفة الإنسانية، وهذه الميزة تميز حوزاتنا العلمية أيضًا، فكانت انتهاجًا بمنهاج الإمام تدرّس كلّ العلوم الموجودة في زمانها، وكان هناك علماء وضعوا علومًا كثيرة مثل الخواجة نصير الدين الطّوسي والشيخ البهائي.

ومع افتتاح الجامعات، أصبحت الحوزات العلمية متوفرة أكثر على علوم الشريعة الإسلامية.

هذه من أبرز مميزات مدرسة الإمام عليه السلام، أسأل الله أن يزيدنا بذلك الإمام العظيم معرفة وأن يزيدنا به تمسّكًا وأن يجعلنا مع الأئمة في الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب، ذلك الإمام العظيم الذي كان مفخرة الأمة ما من أحد من أبناء الأمة كتب وألّف وترجم للإمام إلا وأعلى مقامه وأشاد به إشادة عظيمة، ذلك الإمام الذي خدم الإسلام الخدمة الكبيرة إلا أنه تلقى الأذى الكبير من المنصور العباسي الذي كان يسيئ إليه كثيرًا، وقد تعرض منزل الإمام إلى الهجوم عليه والحرق، فرّت العلويات من دار إلى دار الأمر الذي أفجع الإمام  فتذكر فرار العلويات في عاشوراء من خيمة إلى خيمة، إلى أن دسّوا إليه سمًّا نقيعًا، وسرى السمّ في جميع بدنه، وصار يتقلّب على فراش المرض، والسّم يقطّع جسمه تقطيعًا، جمع أبناءه وأهل بيته وأوصاهم وقدّم لهم النصائح، فلما حضرته الوفاة مدّ يديه ورجليه وأغمض عينيه وفاضت روحه المقدّسة.

أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الثابتين على ولايته وإمامته وولاية أهل البيت عليهم السلام، وأن يرزقنا زيارتهم في الدنيا وشفاعتهم في الآخرة.