قراءة في كتاب

شعر ابن المقرّب العيونيّ، غربة أهل وديار، وقيمة تاريخيّة

كانَ عليُّ بنُ الـمُقَرَّبِ، شاعِرًا مُـحْسِنًا مُـجِيْدًا، وَصَفَهُ بعضُ مُتَقَدِّمِي عَصْرِهِ بأنَّهُ فريدُ دَهْرِهِ، الـمُتَقَدِّمُ على مُتَقَدِّمِي عَصْرِهِ، حَسَنُ السَّبْكِ في شِعْرِهِ، جَزِلُ الألفاظِ في كَلِمِهِ، كثيرُ الأمثالِ في نَظْمِهِ.

 

قَالَ عنهُ الحافظُ الـمُنْذِرِيُّ: "كانَ شاعرًا مُـجِيْدًا مَلِيْحَ الشِّعرِ". وقالَ عنهُ ابنُ الفُوطيّ: "كانَ شاعِرًا مُسْتَرْفِدًا جَزِلَ الألفاظِ". وامتدَحَهُ ابنُ الشّعَّارِ الـمَوصليُّ فقالَ: "كانَ شاعرًا مُـجَدِّدًا منتجِعًا، كثيرَ الـمدْحِ، قليلَ الهجَاءِ، جيِّدَ القولِ مَتِيْنَهُ، قويَّ اللَّفظِ رصينَهُ، وهوَ أحدُ الشعراءِ الموصوفينَ المشاهيرِ في عصرِنا المعروفينَ، أقَرَّ لهُ الـحَذَقَ أئِمَّةُ العراقِ منْ ذّوي الأدبِ والعلمِ، ومذهبُهُ في الشعرِ مذهبُ الشعراءِ المتقدِّمينَ في جزَالةِ الأفاظِ وإبداعِ المعاني".

 

واعتنقَ ابنُ المقرَّبِ في قصائدِهِ مذهَبَ المتقدِّمينَ منَ الشعراءِ، وسارَ على مِنوالِـهِمْ مُتَرَسِّـمًا خُطاهُمْ وسُنَنَهُمْ، فكانَ يُشَرِّعُ للقصيدةِ بابًا على غيرِ غَرَضِها الرّئيسِ، ثمَّ يطوفُ بينَ غَرَضٍ وآخرَ، قبلَ أنْ يَتْركَها وقدْ أدَّتِ القَصْدَ منها، وقدْ وصلَ الغرضَ الأساسَ، ولربمَا انطلقَ في بعضِ قصائِدِهِ بما يُريدُ أوّلاً، دونَ تمهيدٍ ومقدِّماتٍ.

 

القصيدةُ عنَدهُ ليسَتْ وِحْدَةً قائمةً، إنَّما البيتُ في الغالبِ هوَ الوِحْدَةُ، فهوَ يَـجِيْءُ مُستقلًّا بذاتِهِ عمَّا قَبْلَهُ وعمَّا بعدَهُ، وهذا هو شأنُ معظمِ شعراءِ العربِ.

 

شعرُ ابنِ المقرَّبِ، شعرٌ ثَريٌّ غنيٌّ، يعكِسُ ثقافةَ الشَّاعرِ، وسِعةَ اطّلاعهِ، وقوَّةَ مَدارِكِهِ، وشمولَ معارفِهِ القرآنيَّةِ، والتّاريخيَّةِ، ويُظْهِرُ معرفتَهُ الواسعةَ بأيَّامِ العربِ ووقائِعِها، وإحاطتَهُ بأسماءِ الأعلامِ وما جرى منْ أحداثٍ وقصصٍ في الأيامِ، ويؤكِّدُ خَوْضَهُ في بحورِ اللّغةِ العربيَّةِ، واجْتِنَاءَهُ منْ دروسِ النَّحوِ والصرفِ، وإلـمَامَهُ بأنسابِ الـخيلِ وأصولِـها.

 

ولا غَرْوَ أنْ يَطْفُوَ نهرٌ منَ الحزنِ والكَمَدِ في أبياتِ قصائِدِهِ، فقدْ قاسى ما قاسى، وعانى ما عانى، منْ سَجْنٍ ومصادرةِ أموالٍ وغربةِ أهلٍ وديارٍ، فعاشَ نَـهْبًا للرَّزايا، جَلِدًا على ما لقِي، جَارِعًا بالصَّبرِ الكأسَ التي سُقِيْ، مُوَطِّنًا نفسَهُ على الـمُقَارعَةِ بحزمٍ وعزْمٍ، مُكابِرًا وإنْ جارَ الأهلُ عليهِ، وَفِيًّا للأخِلَّاءِ وإنْ خانوا العهدَ، عزيزَ النّفسِ غيورًا شفيقًا، قانعًا مؤمنًا وهوَ القائلُ:

وللهِ فينَا عادةٌ مستمرَّةٌ

يُـجَلِّلُنَا النُّعْمَى ويُعطي الرَّغائِبَا

فشكرًا لهُ منْ مُنْعِمٍ مُتفضِّلٍ

علينا وحَـمْدًا يَنْفَدُ الدَّهرُ واصِبَا

 

اتَّسَمَتْ معانيهِ بالوضوحِ المائلِ إلى العمْقِ، بغيرِ طَرْقٍ للفلسفةِ أو غَمْضِ غُموضِها. شعرُهُ صورةٌ عنْ بيئتِهِ، لم يَـخْلُ منْ صُوَرٍ خياليَّةٍ جميلةٍ، اعتمدَ فيها على التشبيهِ والاستعارةِ والكنايةِ كسواهُ منَ الشعراءِ، ولشعرِهِ أيضًا قيمةٌ تاريخيَّةٌ، إذْ يمكنُ للقارئَ أنْ يلتمِسَ صُورًا للحياةِ السياسيةِ التي عاشَ في كنفِها وللحياةِ العامّةِ المعاصرةِ له.

 

وعَليُّ بنُ الـمُقَرَّبِ بنِ منصورِ بنِ الـمُقَرَّبِ بنِ الحسنِ بنِ عزيزِ بنِ ضَبَّارَ الرَّبعيِّ العُيُونيِّ، لقَبُهُ جمالُ الدِّينِ، وكُنْيَتُهُ أبو عبدِاللهِ، مَعروفٌ بابنِ الـمُقَرَّبِ العُيونيِّ البحرانيِّ، ويُنْسَبُ إلى بلدَةِ العُيونِ بالأحساءِ.

 

أميرٌ منْ أمراءِ الأَحساءِ العُيونيينَ، عاشَ في أواخرِ القَرْنِ السّادسِ للهجرةِ، وأوائلِ القرنِ السَّابعِ، سَكنَ الأحساءَ وأقَامَ فيها، والـخِلافةُ العبَّاسيَّةُ في أواخرِ أيَّامِها، فشَاعَتِ الفَوضى، وظَهَرَتْ إماراتٌ عديدةٌ، واستقَلَّ الأمراءُ بالأقاليمِ.

 

كانَ نابـِهًا مُتَّقِدَ الذِّهنِ فَذًّا، لكنَّهُ لَـمْ يَنَلْ ما يستحقُّ منَ التقديرِ، ولَـمْ تَـجْلِبْ إليهِ نَبَاهَتُهُ إلَّا حَسَدَ الحاسدينَ، وَوِشَايَةَ الـخُصومِ، وَكَيْدَ العَاذِلينَ، الذينَ سَعَوا ضِدَّهُ لَدَى الأميرِ أبي منصور عليِّ بنِ عبدِاللهِ، فَأَوْغَرُوا صَدْرَهُ عليهِ، فمَا كانَ منهُ إلّا أَنِ استولى على بَساتينِهِ وأموالِهِ، وَزَجَّ بهِ في السِّجْنِ مدَّةً.

 

وَلـمَّا خرجَ، ذهَبَ إلى الموصلِ ثمَّ إلى بغدادَ، ثمَّ آبَ إلى هَجَر، مُؤَمِّلاً زَوَالَ الشَّحْنَاءِ، فَنَظَمِ في الأميرِ محمَّدِ بنِ ماجد قصيدةً، فَوَعَدَهُ خيرًا، ثمَّ أَبْطَأَ عنْهُ وَأَخَّرَهُ، وكانَتْ فرصَةٌ منَ الخصومِ لِتَقْوِيَةِ عزْمِ الأميرِ عليهِ، فَأبعَدَهُ عنهُ، فخافَ على نفسِهِ، وخرجَ إلى القطيفِ.

 

أخذَ في القطيفِ يَنْظِمُ الشِّعرَ مُـحَاوِلاً أنْ يَنْفِيَ عنِ النَّفْسِ شجونَـهَا وآلامَها، فَمَدَحَ وَالِيَها الأميرَ فضلَ بنَ محمّدٍ، بقصيدةٍ تعكِسُ ما كابَدَ وقاسى، إذْ يقولُ فيها:

تَـجَافَ عَنِ العُتبى فَما الذَّنْبُ واحِدُ

وهَبْ لِصُروفِ الدَّهْرِ ما أَنْتَ وَاجِدُ

إِذا خانَكَ الأَدنى الَّذي أَنتَ حِزبُهُ

فَلا عَجَبًا إِنْ أَسْلَمَتكَ الأَبَاعِدُ

وَلا تَشْكُ أَحداثَ اللَيالي إِلى امْرِئٍ

فَذا الناسُ إِمَّا حاسِدٌ أَو مُعانِدُ

وَعَدِّ عَنِ الـمَاءِ الَّذي لَيسَ وِردُهُ

بِصَافٍ فَما تَعْمَى عَلَيكَ الـمَوارِدُ

 

ولمْ ينَلْهُ منهُ كثيرٌ، فقَفِلَ عائدًا إلى الأحساءِ، مَادِحًا الأمراءَ والأبناءَ، الذينَ تعاقَبوا على الـحُكْمِ، حتّى انتقلَ إلى بارئِهِ عَامَ ستِّمِئةٍ وتسعَةٍ وعشرينَ للهجرةِ، عنْ سبعةٍ وخمسينَ عامًا.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد