قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

أساليب القرآن في دراسة مسألة المعاد (2)


الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ..
...... وقد حمل المفسرون هذه الكلمات عادة على أن معناها في الآية:
"إقطع رؤوسها" أو "قطعها". والتقطيع ينسجم مع الجملة اللاحقة في الآية أيضاً حيث يقول: ﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا﴾، ولا يقول: اجعل كل واحد منها على جبل. وقد جاء في الروايات أنه لم يكتف بقطع رؤوسها وإنما خلط لحومها ودقها ثم قسمها إلى أجزاء وجعل كل جزء على جبل. وهناك اختلاف حول عدد الجبال. وفي جميع روايات الشيعة تقريبا أنها كانت عشرة جبال، واحتفظ برؤوسها ومناقيرها في يده، وقسم بقية أجسامها إلى عشرة أقسام وجعل كل قسم منها على جبل. واختلفت روايات العامة، فمنها ما يقول إنها أربعة جبال ومنها ما يقول إنها سبعة جبال. وبعد ذلك دعاها إبراهيم بأن قال مثلا للطاووس أن تعالَ فطارت أجزاؤه المختلفة بسرعة والتحقت برأسه. وحكمة الله في هذا هي أن يعلم أن الله يوم القيامة يحيى أيضًا الموتى الذين تناثرت أجزاء أبدانهم. وبعض الذين نذورا أنفسهم لإشاعة الشبه استنكفوا من قبول ظاهر الآية مما لا يسعنا هنا مناقشته. أجل إن بعض المفسرين يقول إن إبراهيم عليه السلام أراد أن يعرف كيفية إحياء الميت. يقول العلامة الطباطبائي رضوان الله عليه: إنه أراد معرفة كيف يحيي الله. فالأمر أرفع بكثير من قصة عزير أو إرميا، إنه كان يريد مشاهدة كيفية فعل الإحياء الإلهي. هذا هو أحد مصاديق قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.
وبعبارة أخرى: تارة يكون السؤال بهذا الشكل: كيف يصبح للشي‏ء المادي استعداد للحياة، فيما لو فرضنا أن ميتًا أحياه المسيح عليه السلام ونحن لا ندري ماذا فعل حتى أحياه. فهنا لا بد أن نقول "تحيا". وتارة أخرى يكون السؤال عن كيفية الإحياء. ولا يتوفر الوصول إلى جواب لهذا السؤال إلا إذ تمت إرادة الله بواسطته، وبعبارة أخرى: يصبح هو بنفسه مجرى لإرادة الله. فما لم يقع الشخص بنفسه في سلسلة العلل فإنه لا يدرك فعل الله. ولهذا أمره الله أن يقوم بنفسه بذبح تلك الطيور وتقطيعها ثم بدعوتها لتأتي حتى يشاهد في باطنه العلاقة بينها وبينه. فمفاد الآية الكريمة هو أن إبراهيم أراد مشاهدة حقيقة فعل الله، ولم يرد الوصول عن طريق الآثار. فالذي يؤدي إلى اطمئنان القلب هو الرؤية والمشاهدة، بينما الذي نظفر به عن طريق الدليل هو المعرفة وليس الرؤية، والرؤية شهود ولا تحصل عن طريق الآثار.
ولعل قوله تعالى: "أو لم تؤمن" كان من أجل أن يقول إبراهيم عليه السلام "بلى"، حتى يعرف الآخرون أنه كان يعلم بذلك، فلا تحصل شبهة في هذا المجال. وذلك لأن الله تعالى عندما يسأل فإن سؤاله ليس من قبيل الاستفهام الحقيقي، لأن الله لا يجهل والعياذ بالله ففي سؤاله إذاً حكمة خفية. وقال بعض الذين في قلوبهم مرض: إن إبراهيم أراد أن يعرف كيف تعود الحياة إلى الميت، فجاءه الجواب: أن افعل كذا وكذا. وليس معنى الآية إنه قد تم فعلاً إنجاز هذه الأمور. و﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾ يعني إن الطيور التي عودتها وأنست إليك ادعها حتى تجي‏ء إليك، ولا يعني هذا أيضًا أن إبراهيم قد قام بهذا الفعل واقعًا. إن هذا حقًّا هراء يضحك الثكلى، ويبتلى به كل من يتجرأ على القرآن. فهل عمل كل لاعب بالطيور عندما يدعوها فتأتيه دال على أن الله يحيى الموتى. ومن الموارد الأخرى التي جرى فيها الحديث عن إحياء الأموات في القرآن الكريم هي الآية 49 - من سورة آل عمران: ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾. والآية 110 من سورة المائدة: ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾. وتتعلقان بالمسيح عليه السلام.
ونفس أولئك الذين يرون أنفسهم مفسرين يقولون بالنسبة لهاتين الآيتين:
أولاً: إنه يقول "أحيي"، ولم يقل لقد فعلت هذا الفعل.
ثانياً: ويقول أيضاً في الآية الثانية "تخرج الموتى"، ولعل الله سبحانه قد أعطاه الإذن في نبش قبورهم!. وعلى كل حال فإن أدل دليل على إمكان شي‏ء هو وقوعه والدليل على إمكان الحياة بعد الموت ما هو واقع في هذا العالم.

إذاً من مجموع الآيات يستفاد: إن المعاد ليس من المستحيلات الذاتية ولا من المستحيلات الوقوعية، فهو ليس مستحيلًا ذاتيًّا لأنه لا يستلزم التناقض: فلو قلنا إنه حي وهو في نفس الوقت ميت لكان تناقضًا، ولكننا نقول إنه يتم إحياؤه بعد الموت، فهو غير مستحيل. وليس مستحيلًا وقوعه أيضًا لأنه لا يوجد مانع من تحققه. وتبقى مرحلة واحدة هي: هل يفعل الله هذا الشي‏ء أم لا؟ لقد ثبت لحد الآن إن الله إذا أراد أن يحيي فإنه يستطيع، أي إن وقوع المعاد ممكن، ولا يوجد دليل على عدم إمكانه. أما هل إن الله يفعل هذا الشي‏ء؟. ومن أين نفهم ذلك؟ فالطريق الطبيعي لمعرفة ذلك هو السؤال منه تعالى. فإذا ثبت أن القرآن منزل من قبل الله، وهو يقول في القرآن إنني أفعل هذا الشي‏ء، فإن الموضوع قد تم إثباته. وبعبارة أخرى: إن أول دليل على ضرورة المعاد هو دليل تعبدي. فإذا عرفنا أن القرآن كلام الله، وهو يقول إنني سأفعل هذا الأمر فإن الحجة تامة على الناس. ومن المسلم أن القرآن الكريم قد أكد كثيرًا على هذا الموضوع، وسوف نختار بعض النماذج من الآيات التي تتميز بتأكيد أعظم من غيرها، وإلا فإن في القرآن ما يناهز الألفين من الآيات التي تدل بنحو من الأنحاء على تحقق القيامة، إما بالدلالة المطابقية أو التضمنية أو الإلتزامية. ففي طائفة من الآيات يؤكد تعالى على وقوع المعاد ويأمر النبي صلى الله عليه وآله بالقَسَم على ذلك: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين﴾ يونس/53. ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ سبأ/3. فهو تعالى يؤكد الجواب بالقسم ولام التأكيد ونون التأكيد الثقيلة. أي إنه استعمل كل أحرف التأكيد ليفهم أن القيامة ستتحقق حتما. وكأنه يشير في ذيل الآية إلى دفع إشكال مقدر وهو: كيف يعلم أن هذا البدن مثلا بأي روح؟ فيجيب: إنه تعالى يعلم بكل شي‏ء حتى إذا كان أصغر من الذرة سواء أكان في السموات أم في الأرض، ولا يقتصر الأمر على أن ذاته تعالى عالمة بكل شي‏ء، وإنما جميع هذه المعلومات التي تتعلق بكل أشياء العالم منعكسة في كتاب أيضاً، فإذا استطاع الملائكة مثلًا أن يشرفوا على هذا الكتاب فإنهم سوف يطلعون على تلك المعلومات. ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ التغابن/7. ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ﴾ النحل/38.

فالآيات السابقة كانت تنقل قول الكافرين فقط، وأما هذه الآية فهي تتحدث عن أشخاص يقسمون قسمًا مغلظًا على أنه لا يوجد معاد. وهم لا يقسمون باللات والعزى وإنما يقسمون بالله. ثم يتحدث الله عن الوعد الحق. وفي آيات أخرى أيضا نظير هذا: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُور﴾ُ فاطر/5. ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾ الزمر/20. ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ النساء/122. وهناك آيات تصرح بأن المعاد لا ترديد فيه: ﴿إنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾المؤمن/59. ﴿وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ الشورى/7. وتوجد آيات تدل على أن الله يلزم نفسه بتحقيق القيامة: ﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى﴾ النجم/47. ﴿وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ الأنبياء/103. ولدينا آيات تعتبر الإيمان بالقيامة هو هدف الأنبياء: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ غافر/15. وقد ذكرت للقيامة أسماء عديدة لعلها تناهز الأربعين إسمًا، وقد سميت في هذه الآية بـ "يوم التلاق" أي اليوم الذي يلتقي فيه الناس ببعضهم، وهناك أسماء أخرى لها من قبيل: يوم الجمع، أو يوم الخلود، أو يوم الشهود، أو يوم الحساب، أو اليوم الآخر، أو الدار الآخرة، وغيرها، وكل واحد من هذه الأسماء يشير إلى ميزة من ميزات القيامة. ﴿يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ الرعد/2. ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾الشورى/ 7. وعلى أقل تقدير فإنه يمكن القول إن الإنذار بالقيامة كان أحد أهداف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله. وتوجد آية في القرآن تتحدث عن "علم للقيامة" وهو من التعبيرات العجيبة: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ الزخرف/61. والضمير في قوله "إنه" يعود إلى القرآن حسب الظاهر. وتتناول بعض الآيات موضوع القيامة من خلال علاقته بنبي معين: ﴿ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ الأنعام/154. وهناك آيتان تتعرضان للحديث عن القيامة مع الكفار: ﴿...أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾ الأنعام/130.
ويظهر من الآية الكريمة أنه لم يُبعث رسول إلا وهو ينذر الناس من يوم القيامة؟ ﴿ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ الزمر/71. ونلاحظ في القرآن المجيد آيات أخرى تبين بأنحاء مختلفة أهمية الإيمان بالقيامة وضرورة هذا الإيمان وتحققها. ومن جملة الآيات التي تجعل الاعتقاد بالقيامة بمستوى الاعتقاد بالله جل وعلا، وكأنه يحتل الكفة الأخرى للميزان هاتان الآيتان: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ البقرة/8. ﴿مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ البقرة/62. ونحن نعلم إنه لا يوجد في لغة القرآن ولا أي كتاب سماوي ما هو أهم من الإيمان بالله، فإذا جعل شي‏ء قرينًا له فإنه لا بد أن يتميز بأهمية خاصة. ويضم القرآن آيات تدل على أن السعادة والفلاح متوقفان على الإيمان واليقين بالآخرة، ولا يكفي الظن والتخمين: ﴿وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ البقرة/4. وتوجد آيات تتعرض لما يقابل ذلك وهو أن من لم يؤمن بالآخرة فمصيره إلى العذاب وإلى جهنم: ﴿وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ الإسراء/10. ولدينا آيات كثيرة تقرن بين المنكرين للمعاد والمنكرين للنبوة، لكننا نذكر هنا ما يتعرض للقيامة فحسب. ﴿بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ﴾ سبأ/8. إذا ابتعد شخص عن الهدف خطوة أو خطوتين فإنه يسهل عليه التصحيح والعودة إلى الطريق السليم، وأما إذا ابتعد كثيراً عن المقصد فإنه لا أمل في عودته. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ﴾ المؤمنون/74.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد