قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

القرآن الكريم: دعوةٌ للالتفاف حول الحقّ

 

الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي .. 

إلى أيّ مدى يتعيّن علينا، نحن الناس الكثيرین الذين نؤلّف مجتمعاً واحداً ولكلّ واحدٍ منّا وجوده المستقلّ، إلى أيّ مدى يتعيّن علينا السعي لجعل ميولنا وَحدويّة مع كلّ ما لدينا من اختلافات؟ فالمراد من إيجاد الوحدة هنا ليس الوحدة الحقيقيّة الفلسفيّة؛ بل المقصود هو تشخيص الملاكات المشتركة بيننا، ثمّ نسعى إلى تقوية تلك الملاكات من جانب، وتقليل وتضعيف العوامل التي من شأنها أن تؤدّي إلى التشتّت والعداوة من جانب آخر.
فالمقصود من إيجاد الوحدة هنا هو الوحدة بالمصطلح الاعتباريّ، وليس المراد بها حذف أشكال الكثرة والاختلافات بالكامل. وهذا يشبه ما نصبو إليه في قضيّة وحدة الحوزة والجامعة، ووحدة الشيعة والسُّنّة، ووحدة جميع الطوائف التي تتقاسم العيش المشترك في البلاد، وهو أن نشخّص الملاكات المشتركة بين الأطراف، ثمّ نحاول أن نجعل تلك الملاكات تحظى باهتمام أكبر، وأن تكون أكثر قوّة، لتتضاءل دواعي الاختلاف وموجباته في ظلّ تقوية تلك الملاكات.
إنّ الطريق الوحيد الذي يضعه القرآن الكريم نصب أعيننا هو الوحدة على أساس الحقّ؛ فالقرآن يدعو أولئك المتصدّين لإصلاح المجتمع، والذين يشفقون على حالهم وحال الآخرين على السواء، وينتابهم الهمّ لكسب دنياهم وآخرتهم معاً، ويكابدون المعاناة لما يشاهدونه من المفاسد ويريدون السعي لمواجهتها، نقول: القرآن يدعو هؤلاء إلى الوحدة على أساس الحقّ، فالكثير من الآيات القرآنيّة تصرّح بالقول: إنّ العنوان الرئيسيّ لدين جميع مَن بعثناهم من الأنبياء هو: ﴿..أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..﴾؛ أي: أقيموا الدين ولا تُحْدثوا الاختلاف والفُرقة فيه. اعرُضوا الدين بمضامين واحدة وشفّافة وقواعد مسلّمة غير قابلة للتشكيك، كي لا يكون سبباً للاختلاف بين الناس. فإذا كان هناك دينٌ واحدٌ وسليم، كان بإمكانه أن يفصل في اختلافات الناس ويحلّ مشاكلهم؛ لكنّه إذا وجد الاختلاف في الدِّين ذاته، فأيّ عامل سيبقى لتولّي حفظ الوحدة؟
إنّ الوحدة المطلوبة هي التي تكون على أساس الحقّ وليست أيّ وحدة كانت. فهل من الحَسَن أن يتّحد الناس جميعاً على الظلم؟ وهل هذا هو ما دعا إليه الأنبياء فعلاً؟ وهل هذه هي الوحدة التي يقول بها جميع العقلاء يا ترى؟ ألِمجرّد كونها وحدة فإنّه لا إشكال، إذاً، على الإطلاق؟!
إنّ الوحدة في الحقيقة هي وسيلة غايتها اتّساع رقعة الحقّ، وأن لا يقف أحدٌ عقبةً أمام الاستفادة من هذه النعمة الإلهيّة التي جعلها الباري تعالى لجميع العباد. فهل يا ترى طُبّقت هذه النصيحة الإلهيّة على أرض الواقع؟
كلّنا يعلم أنّ الاختلافات ظهرت من أوّل لحظة، وفي نهاية المطاف حتّى في الدين الخاتم، الذي هو آخر موهبة إلهيّة إلى الناس، والذي لا بدّ له أن يكون البلسم الشافي لكلّ الآلام والجروح الاجتماعيّة للبشر إلى يوم القيامة، حتّى في هذا الدين نشب الاختلاف منذ اليوم الأوّل لوفاة النبيّ الأكرم، صلّی ‌الله ‌عليه ‌وآله. فإنْ أحبّ امرؤٌ أن يكون وفيّاً لهذا الدين وأن يقف أمام تلك الاختلافات، فأيّ سبيل يتحتّم عليه سلوكه؟
لقد برزت هذه الاختلافات عندما أخذت عروق الباطل تنبض في جسد الدين. فلو كان الحقّ محضاً لما حصل الاختلاف. وإن أرادوا إزالة الاختلاف فما عليهم إلاّ قطع عروق الباطل تلك، لكي يصبح الدين الخالص لجميع البشر واضحاً ومهيمناً؛ فالوحدة لا تكون مطلوبة إلّا إذا كانت على أساس الحقّ.
لذا يتعيّن علينا أن نسعى لتبيين الحقّ ووضعه بين أيدي الناس، وأن نعرّف الناس بعروق الباطل لكي لا يُبتلى أحدٌ بها. فهذه هي فكرة عامّة وأساسيّة واجبٌ أوّلاً على الأنبياء أنفسهم: ﴿..أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..﴾، وثانياً على أتْباعهم: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا..﴾ آل عمران:103، أن يكونوا في صدد العمل بها.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد