قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

نقض العهد في القرآن


الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ..

من أعم الألفاظ المستعملة في القرآن في مورد نقض العهد هو لفظ (النقض) و(النكث). كما استعمل لفظ (التبديل) أو (الإخلاف) في بعض الموارد أيضاً، فمثلاً يقول تعالى في وصف الأوفياء بعهدهم مع الله عز وجل: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾(1).
إنهم لا يبدلون عهدهم ولا يغيرونه، المراد هو أنهم لا ينقضون العهد. يقول القرآن في ذم المنافقين والناقضين للعهد:
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصّالِحِينَ * فَلَمّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾(2).
في هذه الآية استعمل تعبير (أخلفوا الله ما وعدوه) في تبيان نقض العهد لدى المنافقين، أي استعمل لفظ (الوعد) في مورد العهد ولفظ (الإخلاف) في مورد نقض العهد.
وإطلاق النفاق والمنافق في القرآن الكريم لا ينحصر في الذين لا إيمان لهم أساسًا فقط بل أطلق أيضاً على ذوي الإيمان الضعيف ومن لم يملكوا الإيمان الراسخ والقوي، أي للنفاق درجات ومراتب أي أنه (قضية مشككة). من هنا يطلق المنافق في الآية المذكورة على الذين عاهدوا الله من قبل بأن ينفقوا أنْ أنعم الله عليهم من فضله ووسّع عليهم من رزقه وأن يكونوا صالحين ومتقين شكراً على هذه النعمة الإلهية، ولكنهم حينما نالوا الثروة والقوة بخلوا وعملوا بنحو كأنهم لم يبرموا هذا العهد مع الله أصلاً، ونقض العهد هذا أدّى إلى نفاقهم.

أجل إن نقض العهد له هذا الأثر، ومن يعاهد الله ثم ينقض العهد فإنه سيفقد إيمانه بسبب نقضه للعهد وإخلافه للوعد مع الله سبحانه والكذب الذي ارتكبه فيظهر النفاق في قلبه.
أما المؤمنون الحقيقيون الذين عاهدوا الله بأن يصمدوا في سبيل الله حتى الموت، ويدافعوا عن رسول الله (ص) وقد صمدوا في وفائهم لهذا العهد وقاوموا حتى الموت والشهادة فقد نالوا ثناء الله الخاص وسيجزيهم على صدقهم. من هنا يقول تعالى في حق المؤمنين الذين صدقوا في عهدهم مع الله وصمدوا: ﴿لِيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾(3).
وقال تعالى بشأن المنافقين الذين كذبوا ونقضوا العهد: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾(4).
في بعض الآيات يأمر الله بصورة عامة بأن عليهم احترام عهد الله والوفاء به كقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ﴾(5).
وقال سبحانه في موضع آخر: ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللّهِ باق وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾(6).
أي حينما تلاحظون نفعا آنياً في نقض العهد فلا تخلفوا العهد، فإذا رجحتم نفعكم على العهد فقد بعتم عهد الله بثمن بخس في الواقع.
وقد جاء في آية أخرى: ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا﴾(7).

إن الآية وإن كان موردها العهد الذي أبرمه بعض المنافقين مع الله إلاّ أنّ الجملة الأخيرة قد ذكرت كعبارة عامة وهي أعم من ذلك المورد الخاص وتدل على أن أي عهد تعقدونه مع الله فسوف تُسألون عنه، وإذا عاهدتم الله فإنه سوف يسألكم عن هذا العهد يوم القيامة:
قال تعالى في آية أخرى مخاطبًا بني إسرائيل: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ﴾(8).
واضح أن هذا العهد كان ذا طرفين، أي أن الله قد وعد بني إسرائيل عن طريق أنبيائه بأنهم إنْ قاموا بالدفاع عن أنبياء الله وأطاعوا أوامرهم فإنه سوف يعزُّهم في الدنيا وينزل البركات عليهم. لقد كان ذلك عهداً أبرمه الله مع بني إسرائيل. من هنا تقول الآية: أوفوا بالعهد الذي عاهدتموني به لكي أوفي بالعهد الذي عاهدتكم به.
في آية أخرى يأمر الله سبحانه: ﴿وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا﴾(9).
وهو مطلق يشمل كل عهد.
في مجموعة أخرى من الآيات أشار تعالى إلى التبعات السيئة لنقض العهد وذم الناقضين للعهود: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾(10).
وقال في آية أخرى عن هؤلاء أنفسهم: ﴿أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّارِ﴾(11).

وقال سبحانه في موضع آخر: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآْخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾(12).
يلزم التذكير بأنّ البحث الأساسي وإن كان بشأن العهد الاجتماعي ولكن كان من اللازم ذكر هذه الآيات التي تتحدث عن العهد مع الله سبحانه لجهات ثلاث:
الأولى لتكميل بحث العهد، والثانية إنّ العهد مع الله عز وجل في أحد معانيه هو عقد مع الآخرين في الواقع ويشمل العهود الاجتماعية أيضاً، لأن العهد مع الغير والعهد الاجتماعي بدوره يعود بصورة ما إلى العهد مع الله. كما ذكرنا سابقاً بأنّ البيعة مع النبي(ص) بمثابة البيعة مع الله سبحانه، واستفدنا ذلك من العبارة: ﴿يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ وقلنا عن العبارة: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ إن هذا عهد ذو طرفين، أحد طرفيه هو نبي الله والطرف الآخر بنو إسرائيل، وفي الوقت ذاته اعتبره الله عهده بعبارة (أوفوا بعهدي).
الثالثة إنّ العهد مع الله عز وجل يمكن اعتباره عهداً ذا طرفين، إذ إن أحد الطرفين هو الله الذي أنشأ العهد وطرفه الآخر هم الآخرون الذين يتقبلون ذلك فيتحقق العهد ذو الطرفين، فمثلاً يقول تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ﴾(13).

هذا الكلام الإلهي هو إنشاء نوع من العهد من قبل الله مع الناس. فمن ينصر الله ودينه فقد قبل هذا العهد.
المثال الآخر هو قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾(14).
هنا أيضاً قد أنشىء هذا لعهد والعقد من قبل الله، أي تم الإيجاب من قبل الله عز وجل فإذا قبل الطرف المقابل تمت المعاملة وتحقق العهد ذو الطرفين. فإذا جاهد شخص بنفسه وماله في سبيل الله ولتثبيت دين الله فقد قبل ذلك العقد أو الإيجاب الإلهي. في هذه الحالة تحقق طرفا الإيجاب والقبول وكمل العقد والعهد ذو الطرفين فيجب الوفاء به.


1- الاحزاب 23.
2- التوبة 75-77.
3- الاحزاب 24.
4- الاحزاب 24.
5- النحل 91.
6- النحل 95 و 96.
7- الاحزاب 15.
8- البقرة 40.
9- الانعام 152.
10- البقرة 27.
11- الرعد 25.
12- آل عمران 77.
13- محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) 7.
14- التوبة 111.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد