قال اللَّه سبحانه وتعالى:
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
إنّ معنى هذه الآية واضح جدا ولا يوجد فيها أي غموض أو تعقيد أو صعوبة. يقول الشيخ الطبرسي في تفسير جوامع الجامع في تفسيرها: «(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وهو كقولهم (مثلك لا يبخل)» والمراد نفي البخل عن ذاته وهو من باب الكناية لأنهم إذا نفوا الشيء عمّن يسد مسدّه فقد نفوه عنه، فالمعنى نفي المماثلة عن ذاته سبحانه فلا فرق بين أن يقال «ليس كاللَّه شيء» وأن يقال: «ليس كمثله شيء» إلاّ فائدة الكناية وقيل كرّرت كلمة التشبيه للتأكيد.
وعلی أساس هذا التفسير فقد اشتملت الآية المباركة علی الكناية فهي من زاوية أدبية تشتمل على الفصاحة ودلالتها في بيان المعنى أدل وأقوی، فإن كان مثل وشبيه اللَّه جلّ وعلا لا وجود له، فبالأولوية ذات اللَّه جلّ وعلا لا مثيل لها ولا شبيه.
وقال الشيخ محمد النهاوندي في تفسير نفحات الرحمن في ذيل هذه الآية المباركة: ليس كمثله شيء وشبيه نظيره – علی تقدير وجود المثل والنظير – شيء وموجود من الموجودات. ولم يقل «ليس له مثل»، «ليس للَّه مثل» وأمثال ذلك، ففيه مبالغة في نفي المثل له تعالى وقيل إنّ الكاف هنا زائدة وعلی أي تقدير لا شبهة أن مثل الشيء هو المشابه له في الذات والصفات – وإن تشاركا في صدق بعض المفاهيم (كالموجود والعالم والقادر والسميع والبصير ونظائرها) إلاّ أنّ بين مناشيها في الواجب والممكن كمال المغايرة كما هو محقق في محله.
فقد أوضح المرحوم النهاوندي أيضا من خلال كلامه هذا أنه علی فرض وجود المثيل والنظير فإنّ اللَّه جل وعلا لا نظير له في حين أننا نعلم أنّ اللَّه جلّ وعلا لا مثيل له ولا نظير، فبالأولوية يثبت أنّ اللَّه جلّ وعلا لا مثل له، كما وقد أوضح النهاوندي إنه لا يوجد أي اشتراك بين الواجب والممكن – لا في الذات ولا في الصفات – وذلك لأنه واجب وهو الذي تكون حقيقة وجوب وجوده ذاتية له بخلاف الممكن فإنه لا تكون حقيقة وجوب الوجود ذاتية له ومن الواضع أنّ هاتين الحقيقتين متناقضان ولا اشتراك بينهما.
ويستمر النهاوندي في بيانه ويقول إنّ الواجب والممكن يشتركان في بعض المفاهيم كما نقول: الواجب الوجود وموجود وممكن الوجود الاشتراك في المفهوم أو في اللفظ أو في المعنى موجود و… إلاّ أنّ منشأ انتزاع هذين المفهومين (يعني مصداقهما) يختلف من أحدهما للآخر بمعنى أنّهما يشتركان في مفهوم واحد إلاّ أنّ مصداقيهما متغاير (ومتخالف).
الروايات :
1-يروي الشيخ الطوسي قدس سره خطبة لأميرالمؤمنين في مصباحه وانّه قال فيها:
«(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) إذ كان الشيء من مشيئته فكان لا يشبهه مكوّنه».
فعلی أساس هذا الحديث إنّ انتفاء مثلية الأشياء للَّه جلّ وعلا من جهة انّ الأشياء مخلوقة للَّه ومكونة من اللَّه جلّ وعلا ومتحققة بمشيئته، إذن كلّ شيء يظهر للوجود بمشيئة اللَّه وإرادته وكلّ ما كان بمشيئته فهو لا يشبه موجِده.
وبعبارة أخرى نستطيع أن نقول: إنّ المكوِّن قائم بذاته والمكوَّن قائم بالغير.
ومن الواضح أن هذين لا يشبه أحدهما الآخر بل هما متغايران وذلك فإنّ القائم بنفسه واجب الوجود ذاتا بخلاف القائم بالغير.
2- نقل الصدوق؛ في كتاب التوحيد عن الإمام عليّ خطبة جاء فيها: «… حَدَّ الأشياء كلّها عند خلقه إيّاها، أبانة لها من شبهه وأبانة له من شبهها».
هذا الحديث يدل علی أنّ هنالك بينونة بين اللَّه جلّ وعلا والأشياء وأنّهما لا يشتركان في طبيعة واحدة وسنخ واحد أبدا فلا الأشياء شبيهة للَّه جلّ وعلا ولا أنّ اللَّه جلّ وعلا شبيه للأشياء.
3- وروي عن الإمام الرضا أنّه قال: للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب نفي وتشبيه وإثبات بغير تشبيه، فمذهب النفي لا يجوز ومذهب التشبيه لا يجوز (لأنّ اللَّه تعالى لا يشبهه شيء) والسبيل في الطريق الثالثة إثبات بلا تشبيه.
ومعنى هذا الحديث واضح أيضا، فإنّه يؤكد علی هذه النقطة وهي أنّه لا شبيه ولا نظير ولا مثيل ولا شريك للَّه جلّ وعلا.
4- يقول الحسين بن سعيد إنّه سئل أبا جعفر الثاني الإمام الجواد أنّه هل يجوز إطلاق الشيء علی اللَّه جلّ وعلا؟
فأجاب الإمام : نعم يخرجه من الحدين؛ حدّ التعطيل وحدّ التشبيه.
يعني يمكن إطلاق الشيء على اللَّه جلّ وعلا إلاّ أنّه شيء لا يشبه أي شيء ولا يشبهه شيء وأيضا فانّ اللَّه شيء إلاّ أنّه ليس كالأشياء لا يستطيع أن يفعل شيئا وعاجز عن فعل كلّ مايريد.
تفاسير باطلة:
قسم من أهل العرفان وعلى أساس ما يحملونه من تصور خاص يفسرون هذه الآية بشكل غير صحيح فحسب اعتقاد هؤلاء إنّ اللَّه جلّ وعلا حقيقة تتطور وتتعيّن بأشكال مختلفة وله مراتب. وله مقام لا اسم ولا رسم له وهو يتنزل إلى مقام الأحديّة وفي نهاية المطاف يصل الكلام إلى أنّ الحقيقة البسيطة مع لحاظ التعيّن هي كلّ شيء (مثل الشمع الذي يتشكل بأشكال مختلفة إلاّ أنّ حقيقة كلّ تلك الصور المصنوعة من الشمع واحدة (وبلا لحاظ التعين والتقيّد هو حقيقة واحدة وحيث أنّ التعيّن أمر اعتباري إذن كلّ شيء هو اللَّه جلّ وعلا).
فعلی أساس هذا المذهب يقولون حول آية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) إنّ في هذه الآية تشبيه وتنزيه وإنّهما لابدّ منهما معا وإلّا فإنّ التنزيه لوحده مظهر للتهور ومخالفة للعقل.
فكونه تعالى ليس جسما ولا مركبا وليس له صورة ولا مكان ولا زمان خاص، فإنّ ذلك لوحده غير كافٍ لأنّ ذلك عين التشبيه وعين التحديد والتقييد وذلك لأننا إذا نفينا اللَّه جلّ وعلا عن الأشياء فإنّه سيكون محدودا ولا وجود له عند تلك الاشياء.
وعلی هذا فالتنزيه الذي يجر إلى التحديد ليس معنىً صحيحا والبيان الصحيح هو أن نقول بالتنزيه والتشبيه معا.
الجواب: إنّ هذا الكلام يبتني على القول بالسنخية بين الخالق والمخلوق وعندئذٍ فنفي أي شيء عنه تعالى لازمه تحديد الذات الإلهية المقدسة. إلاّ أنّ هذا اللازم الباطل لا يرد على القول بالبينونة بين الخالق والمخلوق (كما أوضحنا ذلك في محله) والأدلة النقلية حول البينونة كثيرة وهي تدل بوضوح علی أنّ الذات الإلهية المقدسة مباينة للمخلوقات ولا اشتراك بينهما في الحقيقة ابدا).
جاء في التفسير الذي طبع باسم ابن عربي (ويقال إنّه من آثار ملاعبدالرزاق الكاشاني): «(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي كلّ الأشياء فانية فيه هالكة، فلا شيء يماثله في الشيئية والوجود».
ويقول ابن عربي في فصوص الحكم:
اعلم أيدّك اللَّه بروح منه أنّ التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد والمنزه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب.
ولكن إذ أطلقاه وقالا به فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نَزَّهَ ووقف عند التنزيه ولم يَر غير ذلك فقد أساء الأدب واكذب الحق والرسل صلوات اللَّه عليهم وهو لا يشعر ويتخيل أنّه في الحاصل وهو في الفائت وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض.
وفي موضع آخر يقول:
قال تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فَنَزَّه (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فشبه. قال تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فشبّه و ثنّى (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فنزّه وأفرد.
فيقول ابن عربي في كلامه هذا: اننا لو فسرنا الكاف في قوله تعالى (كَمِثْلِهِ) بأنّها زائدة فسوف يكون مفاد الجملة هو تنزيه اللَّه) من حيث أنّه لا مثل له ولا نظير ومعنى الجملة التي بعدها هو التشبيه (وذلك لأنّ هاتين الصفتين تطلقان على غير اللَّه جلّ وعلا).
ولو لم نفسر الكاف بأنّها زائدة ففي هذه الصورة سوف يكون مفاد الجملة هو التشبيه والتثنية (وذلك لأنّ نفي المثلية عن اللَّه قد فرض فيه وجود المثل) ومفاد القسم الثاني هو التنزيه والإفراد (وذلك لأنّ السميع والبصير منحصران في اللَّه وهو منزه عن فقدانهما).
وعلى هذا فالآية المذكورة لها تفسيران أحدهما التشبيه والآخر التنزيه.
ويعقب بعد ذلك ابن عربي بقوله إنّه لو كان النبيّ نوح كنبي الإسلام يدعو إلى التشبيه والتنزيه معا لاستجاب له قومه إلاّ أنّ نوح لم يبلغ الاّ التنزيه ولهذا أعرض عنه قومه.
والذي يجمع بين التنزيه والتشبيه هو القرآن لا الفرقان فلم يكن نوح كنبيّ الإسلام يدعو إلى هذا الجامع (بين التشبيه والتنزيه) ولم يصل إلى جوامع الكلم ولهذا فقد بقي قوم نوح على التشبيه ولم يقبلوا التنزيه وكانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم ويغطون رؤوسهم حتّی لا يسمعوا كلام نوح.
ويقول ابن عربي بعد ذلك :
فلو أنّ نوحا أتى بمثل هذه الآية لفظا أجابوه فإنّه شبّه ونزَّه في آية واحدة بل في نصف آية.
من جميع هذه الكلمات يتضح لنا أنّه بعد الاعتماد علی هذه المباني والأفكار في مسائل التوحيد وصل الحال بهؤلاء أن يفسروا هذه الآية التي هي من أصرح الآيات في نفي التشبيه بأنّها في مقام بيان التشبيه في حين أنّ الروايات الدالة علی نفي التشبيه مضافا للأدلة العقلية قد استشهدت بهذه الآية علی نفي التشبيه.
نعم، بناءً علی هذه المباني والأفكار فقد تسمع تارةً من بعض العرفاء والصوفية كلاما يوجب التعجب والحيرة كما في قوله تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) حيث فسروها هكذا:كفروا أولئك لأنّهم حصروا الإله في المسيح والحال أنّ اللَّه كلّ الأشياء والكل هو اللَّه (فقد فسروا الآية علی العكس من مدلولها).
المصدر: كتاب آيات العقائد لسماحة آية الله السيد جعفر سيدان
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ جعفر السبحاني
السيد محمد باقر الحكيم
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد جعفر مرتضى
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الشيخ محمد صنقور
الشيخ علي المشكيني
الشيخ حسين مظاهري
السيد محمد حسين الطهراني
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
حسين حسن آل جامع
فريد عبد الله النمر
الشيخ علي الجشي
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
تحدّي القرآن بالإخبار عن الغيب
الفطرة والغريزة
نظرية أهل البيت (عليهم السلام) في فهم القرآن الكريم
وجود الإنسان والمنظومة الدقيقة
محاضرة للشّعلة بعنوان: ثلاث خطوات لجعل عامك الجديد أكثر نجاحًا
متى تحرّر سلمان الفارسيّ؟ (4)
العلاقة الزّوجيّة في ظلّ المجتمع، محاضرة لأنوار الفتيل في برّ سنابس
لماذا يدخل الإمام علي (ع) عنصر التاريخ في أحاديثه الوعظية؟
الإرادة الإلهيّة
في محاسبة النّفس ومراقبتها