إنّ الاندفاع نحو الكمالات هو روح التربية ومعدنها. وبحمد الله فإن هذا المحرِّك الدافع موجود في كل إنسان، وهو أمرٌ فطريّ يأتي ضمن نظام الخلقة وأجهزتها الأساسية. فلا داعي ولا لزوم لكي يقوم المربّون بإيجاد أو خلق دوافع الخير والصلاح في نفوس المتربّين؛ وكل ما عليهم فعله هو أن ينسجموا مع هذه الفطرة في تربيتهم وتوجيهاتهم، فلا يعيقوا تفتّحها ونموّها ورشدها وفاعليتها؛ وإن كان ثمّة عوامل وراثية ضاغطة تؤدّي إلى حجب نور الفطرة أو تعطيل دورها، فهنا يأتي دور التدخّل التربويّ من أجل إزالة هذه الموانع والعوائق.
يمكن تشبيه الفطرة بفيضٍ ينزل من السماء ليتفجّر وينبعث مجدّدًا من القلب. أمّا هذا الفيض فهو عبارة عن تلك الجاذبة الإلهية المغناطيسية التي تكون وراء كل سعي وكدح وتحرّك لأي مخلوق نحو ربّه الذي هو غاية الغايات ومنتهى الطلبات. فلا حد ولا حظر ولا منع من جهة الإفاضة، وإنّما تكون النفوس مقيّدة أو مضعفة له بحسب سعتها ومجاريها.
من الطبيعي أن تكون نفوس الأطفال في البداية ضعيفةً ومحدودةً، فلا تقدر على استقبال هذا التيار الفائق لفيض فطرة الله التي فطر الناس عليها جميعًا؛ وإنّما تستقبل القليل اليسير منه؛ وشيئًا فشيئًا، تنمو النفس ويكبر معها الاستعداد لاستقبال هذا التيّار وبثّه إلى أن تصل إلى الفطرة التامّة إن هي سلكت سبيله.
ففي البداية تكون الميول والدوافع نحو الكمال شبه معدومة، لكن يُفترض أن تشتد وتقوى مع مرور الأيام وانسجام الحياة مع الفطرة. وبحسب الرؤية الإسلامية للتكامل والنموّ النفسيّ، فإنّ المرحلة العمرية الثانية ينبغي أن تشهد حالة استواء النفس وتماميتها. وفيها تبرز الاستعدادات والتوجّهات الفطرية بصورة ملفتة، وذلك يكون بحسب الطبيعة من السنة السابعة حتى السنة الثالثة عشر تقريبًا.
وهنا قد يكون للعوامل الوراثية تأثير واضح على صعيد نموّ النفس؛ وذلك لما للجسد من دور أساسي في تفتح النفس. فإنّ الكثير من الصفات المكتسبة والعادات الغذائية والصحية والسلوكيات الأخلاقية للآباء والأمهات (بل حتى الأجداد والجدات) ستنقل آثارها إلى الأبناء؛ ولهذا يوصى كثيرًا باختيار الزوج (أو الزوجة) المناسب الذي يتّصف بخصائص عقلية وأخلاقية وإيمانية جيدة، بالإضافة إلى التأكيد على احترام ظروف انعقاد النطفة وأوضاع الحمل. كل هذا، إن دلّ على شيء، فإنّه يدل على أنّ التربية الواقعية لا تبدأ من اللحظة التي يصبح بإمكان المربّين التواصل والتحاور مع الأبناء، بل إنّها تبدأ وتتشكّل بحسب نوعية الحياة ونمط العيش والسلوك الذي يمارسه الآباء والأمهات ويكون له أكبر الأثر في نتاج زواجهما.
صحيح أنّ النفس مغايرة للبدن، لكنّها تنشأ وتتشكّل منه. وبحسب الصفات الوراثية العديدة التي تنتقل إلى أجساد الأبناء، ستتشكّل هذه النفس، وتتشكل معها ظروف استقبال الفطرة وانبعاثها. فأبداننا تشبه القطع والأجزاء الصلبة المكوّنة للحاسوب، أمّا فطرتنا فهي البرامج التشغيلية فيه. لكن هذه البرامج التشغيلية لن تعمل بشكل جيد، ولا يمكن تطويرها ما لم تكن القطع والأجهزة الصلبة متناسبة معها.
وهكذا سيكون لتربية الجسد منذ بدء عملية تكوينه في صلب الرجل ورحم المرأة منفردين ومجتمعين الأثر الكبير على درجة الفطرة ومستوى انبعاث الدوافع المرتبطة بالكمال والصلاح والخير والحُسن.
وقد يُقال أنّ الكثير من التشوّه أو الخراب الذي يطال الأبدان، ويطال معها الفطرة، يمكن إصلاحه في مرحلة الطفولة الأولى بواسطة التربية التي ترتبط بالبدن والعقل؛ وهذا كلام صحيح ودقيق. فما لم يصل الخراب إلى درجة الإتلاف العضويّ (كالتلف الدماغي المزمن)، فمن المرجوّ أن يكون للتربية والإرادة أكبر الأثر في تعديل معظم العوامل الوراثية السلبية. وقد قرأت أنه حدث في بعض الحالات أن انتصرت التربية على نوع من التلف الدماغي الهائل. فقد استطاع بعض الأشخاص ممّن أصيبوا بتلف دماغي بنسبة ٩٥ بالمئة أن يستعملوا ما بقي من هذا الجهاز لبناء حياة إنسانية واعية!
بيد أنّ أهم ما ينبغي أن تتوجّه إليه التربية في هذه المرحلة، بالإضافة إلى سلامة البدن ومتانته، الاهتمام بالجانب العقليّ، الذي يتجلّى بما عبّرنا عنه مرارًا بالوعي الذاتي أو بالوعي التام بما يجري داخل النفس والالتفات إلى العلاقة السببية بين الدوافع والسلوكيات والإرادة والتصرّفات والفعل والمصير. ويتبع ذلك، كلّما أدرك الطفل العلاقة بين أفعال الخير والعاقبة الحسنة، وبين أفعال الشر والعاقبة السيئة، كان أقرب إلى النجاة وإلى استعادة كل ما سلبته إياه تلك العوامل الوراثية السلبية التي تظهر عادة بصورة الطباع السيئة.
لا شيء يمكن أن يصلح ما فسد من الطبيعة مثل ترسيخ سلطان العقل وحكومته على النفس. وفي الواقع، فإنّ التربية العقلية هنا ليست سوى عملية استدرار واستقطاب لتيّار الفطرة بطريقة حاذقة وذكية. لقد أُعطي المربّون فرصة مهمّة لتفعيل الفطرة وتوسعة مجاري استقبالها وأجهزة بثّها بواسطة العمل على تربية العقل؛ هذه القوّة التي تتجلّى في قدرة التمييز بين النقص والكمال في كلّ شيء. وسوف نشير إن شاء الله إلى مجموعة مهمّة من العوامل التربوية التي تساهم في تقوية حضور العقل ودوره.
يمكن تشبيه دور العوامل الوراثية السلبية أو الطباع السيئة بالغطاء السميك الذي يسدل على النفس، فيمنع تفتح ذلك الوعي الذاتي أو يؤخره؛ في حين أنّ دور العقل يشبه ذلك المصباح الذي يسطع بشدة نوره ويخترق هذا الغطاء القاتم إلى درجة يعدم أثره. وكلما قوي نور العقل وسطع على القلب والنفس والذات، ضعف تأثير الطباع السيئة حتى يزول.
قد نجد في أبنائنا ميلًا شديدًا للغضب والعدوانية، لكن من الممكن لقوة العقل هذه أن تحول دون انسياقهم وراء هذا الطبع السيّئ. ومع مرور الوقت، واستمرار تحكيم العقل وتبعيته، يضعف هذا الطبع، وتخبو معه نيران الغضب المستعرة، وتسيطر النفس المتنورة بنور العقل على هذه القوّة الغضبية؛ ومعها قد تتمكن من توجيهها نحو الاستعمال الشريف والمفيد، كالدفاع عن النفس والناموس.
إنّ دور التربية العقلية على صعيد الفطرة وتقوية تلك الدوافع الطيبة يكمن بالدرجة الأولى في تكثير حضور المصاديق الواقعية للكمال أمام الفطرة الكامنة في النفس. ففطرة الأطفال تكون بأمسّ الحاجة إلى مشاهدة ما تصبو إليه والاتصال به، بل وتشكيل علاقة ورابطة حبيّة معه؛ وبذلك تخرج من كمونها وتشق سدود الموانع الطبيعية، لتنمو وتكبر كشجرة وارفة تظلل طبيعة النفس ونقائصها. فكل تجربة فطرية ناجحة تزيد من رصيد الفطرة ودرجتها. في حين أن للتجارب الفطرية الفاشلة آثارًا سلبية فادحة، يصعب التخلص منها، خصوصًا إذا استفحلت وتعمقت.
والمقصود من التجارب الفطرية الفاشلة تعلّق الفطرة الناقصة بالمصاديق الوهمية للكمال، حيث يكون نتيجة ذلك يأس صاحبها من الكمال نفسه. وهذا ما أشار إليه الذكر الحكيم تحت عنوان السراب الذي إن جاءه الإنسان لم يجده شيئًا وهو يحسبه ماءً؛ {وَالَّذينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَريعُ الْحِسابِ}.[1]
فمن التجارب الفطرية الفاشلة التي غالبًا ما يمر بها الإنسان في حياته، وخصوصًا الشباب تجربة العشق الوهمي، الذي يكون منشؤه الدوافع والرغبات والحاجات الجنسية المتسلطة، حيث تهيمن هذه الرغبات على الانجذاب الفطري للجمال والكمال؛ فتكون النتيجة في حالات كثيرة أن لا تجد هذه الفطرة ما كانت تصبو إليه، وإنّما تجد في المقابل شخصًا فارغًا ضحلًا يشبه بئرًا عميقًا لا يرجع صدى الصوت. فقد تبين أنّ ما تعلّق به القلب منذ البداية ليس سوى شخص ناقص محتاج مثلنا. وحين تتكرّر هذه التجارب الفاشلة، فمن المتوقّع أن ييأس صاحبها من الحب الحقيقي، لأنّه لن يعتقد بعدها بوجود أشخاص يتمتّعون بالكمال الذي تصبو إليه فطرته. ولهذا قيل إنّ غلواء الشهوة الجنسية يقتل الحب؛ وإنّما قصدوا بذلك أنّ سيطرة الشهوات على العلاقات تسلبها نقاءها وجمال ما فيها.
وقد يتعلّق القلب بالرئاسة والجاه والموقعية الاجتماعية فيحمل البدن على العمل الدؤوب والسهر المتواصل وسلوك كل طريق ممكن لأجل نيل هذا المبتغى؛ ظنًّا منه أنّ في الرئاسة والجاه كمالًا للنفس. فما أكثر الذين يعتقدون أنّ الرئاسة قدرة، في حين أنّ أعجز الناس هم الزعماء وأمثالهم. وإنّما تأتي القدرة الحقيقية من قوّة النفس المتّصلة بمعدن القدرة: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}.[2] ولطالما أرانا الله عزّ وجل خزي الزعماء المستكبرين المدجّجين بأنواع الأسلحة والثروات والرجال والعتاد، وشاهدنا كيف أنّهم عجزوا عن تحقيق كل ما خطّطوا له من مكر الليل والنهار. وحين سُئل أمير المؤمنين عن السر في قلع باب خيبر الذي عجز عن قلعه وتحطيمه عشرات الرجال، قال عليه السلام: " وَاللَّهِ مَا قَلَعْتُ بَابَ خَيْبَرَ وَرَمَيْتُ بِهِ خَلْفَ ظَهْرِي أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا بِقُوَّةٍ جَسَدِيَّةٍ وَلَا حَرَكَةٍ غِذَائِيَّةٍ، لَكِنِّي أُيِّدْتُ بِقُوَّةٍ مَلَكُوتِيَّةٍ وَنَفْسٍ بِنُورِ رَبِّهَا مُضِيئَة". [بحار الأنوار، ج21، ص 26].
إنّ وصل الفطرة بالمصاديق الواهمة للكمال هو أكبر خطر يتهدّدها. وفي المقابل، إنّ ارتباط الفطرة بالمصاديق الواقعية للكمال المنشود يشكّل عاملًا أساسيًّا لنموّها وتكاملها. فإذا سنحت الفرصة لحبّ عفيف رقيق، يتعلّق فيه القلب بمن يمثّل درجة من الكمال، ولم يُسمح للنوازع والرغبات الجنسية والمادية أن تسيطر عليه وتغلّفه، فمن المتوقع أن يكون لهذه التجربة أثر كبير على مستوى تنمية الفطرة. وهذا ما يفسّر بعض ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الربط بين الإيمان وحبّ النساء (كُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ إِيمَانًا ازْدَادَ حُبًّا لِلنِّسَاءِ [مستدرك الوسائل، ج14، ص 157]). ففي مثل هذه الحالات يكون المقصود من النساء ذاك البعد اللطيف الممتزج بالرقّة والحنان والذي يحكي عن رحمة الله تعالى وعطفه. ومن كان له توفيق هذه التجربة الطيبة يدرك معنى ما نقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]. سورة النور، الآية 39.
[2]. سورة البقرة، الآية 165.
السيد جعفر مرتضى
السيد علي عباس الموسوي
الشيخ محمد علي التسخيري
الدكتور محمد حسين علي الصغير
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
الشيخ حسن المصطفوي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
أثير السادة
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ناجي حرابة
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
بماذا كان يدين النّبيّ (ص) قبل البعثة؟
حياتنـا كما يرسمها الدين
اتجاهات التفسير في المكي والمدني
الألفاظ الدالة على الأصوات في القرآن الكريم
هل أنا زائد عن الحاجة؟
كيف تنمو دوافع الخير والكمال في أبنائنا؟
ضرر قاعدة مناقشة الخلافات الزوجية والطرفان غاضبان أكثر من نفعها!
(اكتب خطّة حياتك خطوة بخطوة) باكورة أعمال الدّكتورة إيمان المعلّم
معنى (جنب) في القرآن الكريم
الحسد والحاسدون