علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
عن الكاتب :
فيلسوف، مفسر وعالم دين إسلامي و مرجع شيعي، مؤسس مؤسسة الإسراء للبحوث في في مدينة قم الإيرانية

موقف الإنسان في الرقي والهُويّ


الشيخ عبداللّه الجوادي الآملي ..

عن أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام) أنّه قال: «فلينظر ناظرٌ أسائرٌ هو أم راجع؟» .[1]

بعد الحمد والتصلية، يقول العبد المحتاج إلي ربّه، عبداللّه الجوادي الطبري الآملي: هذه وجيزة حول سلوك الإنسان ورقيّه إلى هدفه النهائي المخلوق لأجله، وبيان ما له من الآداب والشرائط، حتّى تكون تذكرة لبعضٍ وتبصرةً لآخرين، والمأمول الهامّ أن تكون عظةً لنفسي الّتي كم أقول لها: ارجعي إلى ربّك راضية مرضيّة؟ وهي تعصي وتأمر بالسوء وتنحو نحو ما يشينها، ولا تهجر الرجز ولا تسرع إلى الخير ولا تسبق إليه، يا غفلتي عمّا يراد بي!

أقول: إنّ الإنسان موجود متفكّر مختار فيعمل حسبما تفكّر فيه واختاره. والقرآن يهتف بأنّ اللّه ﴿آعطى كُلَّ شي‏ءٍ خَلقَهُ ثُمَّ هَدى﴾ [2]، فقد أعطى الإنسان قدرة التفكّر والاختيار ثمّ هداه إلى ما هو كماله ورُقيّه كما بيّن له ما هو رداه وهُويّه. وحيث إنّ «القرآن مأدبة اللّه» [3] و«بحراً لا يدرك قعره» [4] وعصمة لمن‏تمسّك[5] به، فلذا تضيّفه وغاص وسبح فيه وتمسّك به الخواص والأوحدي كما تمسّك به غيرهم من آحاد الناس، فهو وإن كان هدى للناس لكنّه يكون بيّناتٍ من الهدى والفرقان للخواص والأوحدي منهم.

وحيث إنّ هذه القلوب أوعية وخيرها أوعاها، فلكلٍّ من هؤلاء المحقّقين حظّ خاص في كيفيّة تبيين مدرج الإنسان وسلوكه فيها. فالعرفاء يرون كمال الإنسان في معرفة نفسه والسير في منازلها، شاهداً ظهور الوحدة المطلقة في مرايا آياته ومجالي تعيّناته، حتّى يتوحّد بالتوحيد الأفعالي بشهود جميع الأفعال الحسنة فانيةً في فعله تعالى، وبالتوحيد الصفاتي بمشاهدة جميع الصفات الكمالية فانيةً في صفته تعالى، وبالتوحيد الذاتي برؤية جميع الذوات فانيةً وذاته تعالى باقيّة. ومدار بحثهم النظري هو الوحدة الشخصيّة لحقيقة الوجود وإطلاقها وتعيّن مظاهرها، ومدار بحثهم العملي هو الشروع من اليقظة والانتهاء إلى التوحيد، مع ما بينهم من التفاوت في الجملة.

والحكماء يرون كمال الإنسان في عقله النظري الّذي به يتأثّر علماً عمّاً فوقه بأن ‏يبلغ العقل المستفاد، وفي عقله العملي الّذي به يؤثّر عملاً فيما دونه بأن يبلغ بعد التخلية والتجلية والتحلية مقام الفناء، ويرون أنّ هاتين القوّتين تتّحدان في النهاية، ومدار بحثهم هو تشكيك الوجود أو تباينه أو غير ذلك، لا الوحدة الشخصيّة.
وعلماء الأخلاق من أصحاب الحديث يرون كمال الإنسان في اتصافه بجنود العقل واتّقائه جنودَ الجهل. ويرون أنّ جنود العقل لا تجتمع إلاّ في نبيّ أو وصيّ نبيّ أو مؤمن قد امتحن اللّه قلبه للإيمان، وأما سائر الناس من موالي الأئمّة فإنّ أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود حتّى يستكمل وينقى من جنود الجهل، فعند ذلك يكون في الدرجة العليا مع الأنبياء والأوصياء. وإنّما يدرك ذلك بمعرفة العقل وجنوده وبمجانبة الجهل وجنوده، حسبما رواه في الكافي[6] عن الصادق (عليه‌ السلام) وشرحه المحقّقون من مَهَرة الفنّ. وهكذا يرون أنّ كمال الإنسان في إحصاء الأسماء الحسنى الّتي للّه تعالى. ومعنى إحصائها هو العلم بمعارفها والاتّصاف بحقائقها، حسبما رواه الصدوق (قدس‌سرّه)، أنّ «من أحصاها دخل الجنّة».[7]

وليس الغرض هنا الميز بين العرفان والحكمة والحديث وبيان ما لكلّ واحد منها في الحقيقة؛ إذ لذلك المقال مقام آخر، بل المقصود هنا بيان بعض المراحل السامية للإنسان وكيفيّة وصوله إليها أو البعد عنها، حتّى يتبيّن في ضوئه ما أفاده الإنسان الكامل الّذي كان يرى نور الوحي والرسالة ويشمّ ريح النبوّة[8]، وكان بين صحابة الرسول كالمعقول بين المحسوس[9]، ذاك مولانا أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام) حيث قال: «فلينظر ناظر، أسائر هو أم راجع؟».[10] وتلك المرحلة السامية هي إمامة المتّقين بحيث يصير الإنسان قدوةً لأهل التقوى وأسوةً لهم، وهي آخر أسئلة عباد الرحمن الّذين وصفهم اللّه بغير واحد من الكمالات الراقية. ولنيل تلك المرحلة شرائط وآداب لا تتحقّق بدونها، كما أنّها لا تتخلّف عنها لأنّه تعالى لا يخلف الميعاد. ولنشر إلى نبذٍ من تلك الوظائف الّتى لا بدّ للسالك من تحصيلها والتحقّق بها:
أوّلها: معرفة الهدف الحقّ، والطريق إليه، وكيفيّة السير. إذ ما من حركةٍ إلاّ وهي تحتاج إلى المعرفة، ولذا دعا القرآن إليها ببياناتٍ شتّى، كالتفقّه والتعقّل والتفكّر والعلم.

وبيانه حسبما أفاده أمير المؤمنين (عليه‌السلام) الّذي كان مخبراً عن القرآن، بقوله (عليه‌السلام): «... فالناظر بالقلب، العامل بالبصر، يكون مبتدأ عمله أن يعلم أعَمَله عليه أم له؟ فإن كان له مضى فيه وإن كان عليه وقف عنه؛ فإنّ العامل بغير علمٍ كالسائر على غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطريق الواضح إلاّ بُعداً من حاجته، والعامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح، فلينظر ناظرٌ أسائر هو أم راجع؟ إلى أن قال (عليه‌السلام): واعلم أنّ لكلّ عمل نباتاً، وكلّ نباتٍ لا غنى به عن الماء، والمياه مختلفة، فما طاب سقيه طاب غرسه وحَلَت (احلولت) ثمرته، وما خبث سقيه، خبث غرسه وأمرّت ثمرته».[11] والحاصل: أنّ بالعلم بالهدف الخير يُعرف معنى النفع والضرّ؛ إذ الخير هو الهدف الحقّ، والنفع ما يفيد في السلوك إليه والضرّ ما يصدّ عنه، فمبتدأ السلوك معرفة النافع والضارّ حتّى يقدم أو يقف، وهكذا معرفة الطيّب والخبيث حتّى تحلو ثمرة حياته ولا تمرّ.

ثانيها: الهجرة، وهي هجر الرجز والرجس، برفض كلّ ما يصدّه. ولقد نَدَبَ القرآن إليها في غير موردٍ وجعلها مدار ولاية المؤمنين بعضهم لبعضٍ، فلا ولاية لمن لم يهاجر، وحكم بأنّ من يخرج من بيته مهاجراً إلى اللّه ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على اللّه، وكفى بذلك فوزاً، ووعَدَ من هاجر في سبيل اللّه ثمّ قتل أو مات رزقاً حسناً.[12] كلّ ذلك ليتحرك نحو الكمال النهائي إمامة المتّقين ويسير إلى الهدف المخلوق لأجله ويتحقق به.

وثالثها: السرعة في هذا السير واقتحام عقبات هذا المسير الوعر. ولقد ندب إليها القرآن وجعلها موجبة للصلاح وسبباً لاستجابة الدعاء، وبيّن خطأ من توهّم أنّ الإمداد المادّي بالمال والولد مسارعة في الخير، وأفاد أنّ المسارعة إلى الخير هو التوحيد والإشفاق من خشية الربّ والإيمان بآياته ووجل القلب عند تذكّر لقاء اللّه.[13]
والحاصل: أنّ المهاجر إلى إمامة المتّقين لابدّ له أن يسارع في هجرته هذه حتّى يجتاز العقبات الكؤود.
ورابعها: السبق بعد السرعة، إذ الاستباق وجعل الغير مسبوقاً بالتقدّم عليه في السير المعنوي والملكات الفاضلة، ممدوح وندب القرآن إليه في موارد كالآيات: 21 من سورة الحديد، و148 من سورة البقرة، و48 من سورة المائدة، و100 من سورة التوبة، و32 من سورة فاطر. وجعل السابقين من المقرّبين الّذين هم فوق الأبرار؛ لأنّ «الظالم يحوم حوم نفسه، والمقتصد يحوم حوم قلبه والسابق يحوم حوم ربّه عزّ وجلّ».[14]

وخامسها: الإمامة، لأنّ العارف إذا هاجر إلى ربّه وسارع في هجرته واستبق الخيرات وسابق غيره فيها صار إماماً يأتمّ به غيره من أهل التقى؛ لأنّه يهدي المتّقين كما أنّ القرآن هُدى للمتّقين، فيصير بمنزلة القرآن الناطق حسب سعة وجوده. ولا يمكن نيل هذا الشأو القاصي إلاّ بعد الابتلاء بكلمات اللّه وإتمامهنّ والتحقّق بها حسبما أشار إليه قوله تعالى: ﴿وإذِ ابتَلي اِبرهيمَ رَبُّهُ بِكَلِمتٍ فَاَتَمَّهُنَّ قالَ إنّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إمامًا قالَ ومِن ذُرِّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهدِي الظّلِمين﴾.[15] ولا ينال عهده تعالى إلاّ من كان عادلاً طيلة عمره، إذ من كان ظالماً طول عمره أو كان ظالماً في آخر عمره وإن كان عادلاً في بادىء أمره، لا يشمله دعاءُ خليل اللّه (عليه‌السلام) أساساً، لتعاليه (عليه‌السلام) عن مسألة الإمامة لهذين الصنفين، فينحصر فيمن يكون عادلاً طول دهره ومن يكون عادلاً في آخر عمره وإن كان ظالماً في بادئ‏ أمره، فقوله تعالى: ﴿لا يَنالُ عَهدِي الظّلِمين﴾ هو لنفي خصوص الصنف الأخير، فلم يبق في البين إلاّ من كان عادلاً طيلة دهره، وهو الذي يناله عهد اللّه تعالى. وهذا ما أفاده سيّدنا الأستاذ العلاّمة الطباطبائي دام ظلّه في تفسيره القيّم المسمّي ب(الميزان) عن بعض الأعاظم.[16]

وهكذا لا يمكن الرُقيّ إلى هذا المقام إلاّ باليقين الّذي ما أنعم اللّه على أحدٍ بأفضل منه وبه يدرك الغاية القصوى، وإلاّ بالصبر في أبعاده الثلاثة: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على المصيبة (آية24 من سورة السجدة)، وبالعبوديّة الخالصة (آية73 من سورة الأنبياء)، وبالجامعيّة للكمالات العلميّة والعملية حسبما أشار إليه قوله تعالى في سورة الفرقان (الآيات74 ـ 63): ﴿وعِبادُ الرَّحمنِ الَّذينَ يَمشونَ عَلَى الأرضِ هَونا﴾ إلى قوله تعالى ﴿واجعَلنا لِلمُتَّقينَ إماما﴾.
ثمّ الإمامة كما أنّها زعامة للناس في عالم الملك كذلك هي هدايةٌ لأعمالهم وملكاتهم في عالم الملكوت، حيث إنّ أعمالهم وكلماتهم الطيّبة إنّما تصعد إلى اللّه تعالى تبعاً لصعود ما للإمام من الكلمات الطيّبة، لأنّه بنفسه كلمة تامّة ومن الكلمات التامّة للّه تعالى، يوحي إليه فعل الخيرات[17]، وهذا غير وحي القانون والتشريع، تدبّر تجد الميز بين وحي الفعل ووحي الحكم.

ولإمامة أهل التقى خصيصة، حيث إنّها قدوة للمتّقين الّذين «فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذّبون... »، وقُرّة عينه فيما لا يزول وزهادته فيما لا يبقي، يمزج الحلم بالعلم والقول بالعمل.[18]
هذا مجمل القول في رُقيّ الإنسان، من المعرفة والهجرة والسرعة والسبق إلى الإمامة، وفي قبال رقيّه رداه، وفي قبال صعوده الهُويّ، لأنّه واقف بين نجدي الأوج والحضيض وسبيلي الإيمان والكفر. وكما أنّه كان لرقيّه درجات يكون لهويّه دركات:
أوّلها: الجهالة المقابلة للعقل لا العلم، إذ العلم بنفسه قد يكون جهلاً «ربّ عالم قد قتله جهله، وعلمه معه لا ينفعه».[19]
ثانيها: الهجرة، وهي هجر القرآن، ﴿يرَبِّ إنَّ قَومِي اتَّخَذوا هذا القُرءانَ مَهجورا﴾.[20]
ثالثها: السرعة في تلك الهجرة الكاذبة بالمَرَح في المال والبنين وأكل التراث أكلاً لمّا وحبّ المال حبّاً جمّاً، وتخيّل ذلك سرعةً في الخير.[21]
ورابعها: السبق الكاذب، كما في قوله تعالى: ﴿ولا يَحسَبَنَّ الَّذينَ كَفَروا سَبَقوا إنَّهُم لا يُعجِزون﴾.[22]
وخامسها: الإمامة الكاذبة، كما في قوله تعالى: ﴿فَقتِلوا أئِمَّةَ الكُفرِ إنَّهُم لا أيمنَ لَهُم لَعَلَّهُم يَنتَهون﴾ [23]، ﴿وجَعَلنهُم أئِمَّةً يَدعونَ إلَى النّارِ ويَومَ القِيمَةِ لا يُنصَرون﴾.[24]
وكم فرق بين أئمّة الصدق والعدل الّذين هم «قُوّام اللّه على خلقه وعرفاؤه على عباده، ولا يدخل الجنّة إلاّ من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وأنكروه» [25]، وأئمّة الكذب والجور حيث قال عليّ (عليه‌السلام): «وإنّي سمعت رسول اللّه ‏صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يُؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في نار جهنّم، فيدور فيها كما تدور الرَحَى ثمّ يرتبط(يرتبك) في قعرها».[26]وبالجملة «فإنّه لا سواء إمام الهدى وإمام الردى، ووليّ النبيّ وعدوّ النبيّ».[27]


[1]  ـ نهج البلاغة، الخطبة 154.
[2]  ـ سورة طه: الآية50.
[3]  ـ مستدرك الوسائل، ج 4، ص 258.
[4]  ـ نهج البلاغة، الخطبة 198، فقرة 25.
[5]  ـ تفسير الإمام العسكري(عليه‌السلام)، ص 25؛ بحار الأنوار، ج 89، ص182.
[6]  ـ ج 1، ص 23.
[7]  ـ التوحيد، ص195.
[8]  ـ راجع: نهج البلاغة، الخطبة 192.
[9]  ـ حاشية الشفاء، ص685، عن ابن سينا.
[10]  ـ نهج البلاغة، الخطبة 154.
[11]  ـ نهج البلاغة، الخطبة 154.
[12]  ـ من: سورة آل عمران، الآية195؛ سورة الأنفال، الآية72؛ سورة الحج، الآية58؛ سورة النساء، الآية100.
[13]  ـ سورة آل عمران، الآيات 113 و 114؛ سورة الأنبياء، الآية90؛ سورة المؤمنون، الآية61.
[14]  ـ معاني الأخبار، ص 104.
[15]  ـ سورة البقرة، الآية124.
[16]  ـ راجع: الميزان، ج 1، ص 274.
[17]  ـ سورة الأنبياء، الآية 73.
[18]  ـ راجع: نهج البلاغة، الخطبة 193.
[19]  ـ المصدر، قصار الحكم 107.
[20]  ـ سورة الفرقان، الآية30.
[21]  ـ اُنظر: سورة المؤمنون، الآية56.
[22]  ـ سورة الأنفال، الآية59.
[23]  ـ سورة التوبة، الآية12.
[24]  ـ سورة القصص، الآية41.
[25]  ـ نهج البلاغة، الخطبة 152.
[26]  ـ المصدر، الخطبة 164.
[27]  ـ المصدر، الكتاب 27.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد