قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

الإيثار العظيم

 

السيد جعفر مرتضى
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾.
قد أجملت الآية السابقة حال الأبرار، وأنّهم يوفون بالنذر، ثمّ جاءت هذه الآية لتذكر شاهداً تفصيلياً، ولتكون شاهداً حيّاً على ذلك الوفاء، وعلى تأصّل حالة البرّ والأبرارية فيهم. وهذا الشاهد هو قضية إطعام المسكين، واليتيم، والأسير. وهذه الآية بالذات قد ذكرت الحادثة التي كانت سبب نزول السورة بأكملها وهي باختصار شديد: أنّ الحسنين عليهما السلام مرِضا، فنذروا صيام ثلاثة أيّام إذا شافاهما الله سبحانه، وبعد شفائهما أرادوا الوفاء بالنذر، فصام الجميع حتّى الحسنان عليهما السلام، ولم يكن عندهم طعام سوى أقراص شعير هيّأتها الزهراء عليها السلام للإفطار، فلمّا أرادوا الشروع جاءهم مسكين فأعطوه ما هيّأوه، وأفطروا على ماء، وباتوا بدون طعام، وأصبحوا صياماً.
فلمّا حضر إفطار اليوم الثاني، جاءهم يتيم فأعطوه أيضاً ما هيّأوه، وطووا ليلتهم كسابقتها، وأصبحوا صياماً.
وفي اليوم الثالث جاءهم أسير، فأعطوه طعامهم، وباتوا بدون طعام.. ثمّ غدوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله، وشاهد حالهم، فنزلت السورة في حقّهم صلوات الله وسلامه عليهم.

 

مع مفردات الآية
لقد بدأت الآية المباركة بكلمة ﴿ويطعمون﴾. وقد يكون من المفيد تفصيل الكلام حول هذه الكلمة ضمن المطالب التالية:
أ) لم يقل: «يعطون الطعام»، فقد يقال: إنّه يظهر من الروايات أنّ ما حصل، إنّما هو إعطاء الطعام للسائلين، وليس هو الإطعام، ولكن التعبير القرآني قال: ﴿ويُطْعِمُونَ﴾، فما هو السبب في ذلك؟!
والجواب: أنّ إعطاء الطعام لا ينافي أن يكون الآخذ قد أكل ذلك الطعام أمام أعينهم، فالذي حصل فعلاً وإن كان هو الإعطاء، والمناولة لكنّه انتهى بالإطعام. فالتعبير ب‍ ﴿ويُطْعِمُونَ﴾ يتناول الإعطاء والمناولة، والإطعام عن قصد وإرادة.
ب) الإطعام وقت الإفطار: ونحبّ أن نشير إلى أمر مفيد هنا، هو أنّ المال حين يكون نقوداً، فإنّ التخلّي عنه يكون أسهل ممّا لو تحوّل إلى سلعة، مثل قميص، ساعة، قلم، بيت، خاتم، سبحة، إذ إنّ تجسُّد المال على هذا النحو يعمّق العلاقة به. فالصدقة بثمن الخاتم أسهل من الصدقة بالخاتم نفسه.
وذلك لأنّ للمال مغريات توجب المزيد من التعلّق به، فللشكل جاذبيته، وللألفة تأثيرها، وللأُنس به، وللأحداث التي ترتبط به، التي تتحوّل إلى ذكريات لذيذة دورها، فإذا انضمّ إلى ذلك أو إلى بعضه الحاجة الغريزية الجسدية لهذه السلعة، كما لو كان طعاماً يحتاجه الإنسان لسدّ جوعه، وتدعوه إليه حاجته الطبيعية.. ولا بدّ من أن نتصوّر مدى تعلّق الباذلين بالطعام الحاضر، خصوصاً بعد أن مرّ عليهم ثلاثة أيام بلا طعام.
ج) ﴿ويُطْعِمُونَ﴾ بصيغة المضارع: صحيح أنّ كلمة ﴿ويُطْعِمُونَ﴾ تفيد أنّ الجميع - حتّى الحسنين عليهما السلام، رغم صغر سنّهما - قد مارس هذا الإطعام بكلّ شؤونه وحالاته، ولكنّ التعبير بصيغة المضارع لا بصيغة الماضي، فلم يقل: «أطعمَوا»، إنّما جاء ليفهمنا أنّ هذا الإطعام يستمرّ، ويتجدّد بإرادة، والتفات، واختيار، ومبادرة منهم.. وهذا الاستمرار الذي شهدت له الحادثة المشار إليها نفسها أيضاً يعطي أنّ هذا الإطعام، هو سجيّة لهم، وطبيعة فيهم، وليست القضية مجرّد حدث عابر قد انتهى وانقضى، وقد يكون مجرّد أريحية اهتزّت، أو مؤثّرات توفّرت، فأنتجت هذا الحدث، بهذه الميزات، وبتلك المواصفات، حيث صادف كونهم صائمين، وصادف أيضاً أنّه حصل ثلاث ليال متوالية، وبهذه الطريقة..
على حبّه
وتواجهنا كلمة ﴿عَلى﴾، حيث دلّت على أنّ إطعامهم هذا الطعام قد كان برغم وجود المانع والرادع عنه، وهو الحبّ لذلك الطعام، وهذا يزيد في أهمّية ما فعلوه، لأنّ القضية لم تقتصر على العطاء بصورة طبيعية ومجرّدة، بل تجاوزتها إلى التغلّب على الموانع والروادع التي أضيفت إليها وهي هذا الحبّ للطعام الذي أضيف إلى الاشتهاء الطبيعي، وإلى سائر الخصوصيات الآتية في الفقرة التالية.
ومن يتأمّل الآية يجد أنّ عبارة ﴿عَلى حُبِّهِ﴾ جملة اعتراضية قد جاءت لبيان المزيد من الصعوبة التي يواجهها الباذلون في بذلهم ذاك، أي إنّهم يطعمون الطعام على الرغم من حبّه. وهذه الجملة الاعتراضية لا بدّ منها لإفادة معنى الإيثار، الذي يمارسه أناس هم بأمسّ الحاجة إلى هذا الطعام، وهم يطوون ثلاثة أيّام بدونه.
وهناك فرق بين مًن يطعم الطعام، وهو في غنًى عنه، بل هو يملك الخزائن الملأى، وبين أناس لو فقدوا طعامهم، فسوف لا يجدون سواه، وسوف يتسبّب ذلك بمشكلة وإحراج شديد لهم.
كما إنّه ليس كلّ من يعطي الطعام يكون دافعه هو الشعور والإحساس الإنساني بحاجة الآخرين، فإنّ لبذل الطعام دوافع مختلفة غير ذلك أيضاً، ولا حاجة إلى البيان..

 

مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً
وفي هذه الكلمات مباحث، وخصوصيات عديدة، نأمل أن نتمكن من أن نبيّن بعضاً منها، بحسب ما تصل إليه أفهامنا، فنقول:

إنّ أوّل ما يواجهنا هنا أنّه تعالى قد أورد هذه الكلمات: ﴿مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾ منوّنة بتنوين التنكير، ولم يوردها محلّاة بالألف واللام، وربّما يكون السبب في ذلك هو أنّه إذا قال: «المسكين، واليتيم، والأسير» فقد يوهم ذلك إرادة خصوص المعهودين لديهم، والمعروفين عندهم، فيكون إطعامهم لهم ناشئاً عن عدّة دواعٍ متمازجة ومتعاضدة في التأثير، وفي الاندفاع إلى الإطعام، لأنّ المعرفة بالشخص قد تدعو لإجابة طلبه، وكذا لو كان ذا قرابة مثلاً، أو من قومه، أو من بلده، أو مرتبطاً بذي قرابة، أو بصديق، أو جاراً، أو ما إلى ذلك..
أمّا تنوين التنكير فهو صريح في أنّهم يطعمون أيّ مسكين، وأيّ يتيم، وأيّ أسير كان. وذلك يدلّ على أنّ اليُتم والمسكنة والأسيرية هي المحرّك الإنساني، وعلى أنّ الغاية هي وجه الله. وليس ثمّة أية شائبة في هذا الخلوص، وذلك الإخلاص، فليس في نفوسهم أيّة آثار لمؤثّرات دنيوية أدْنيوية أرضية غير إلهية، أو غير إنسانية.
فالدافع إنساني مرتبط بالمشاعر، والهدف إلهي، وقد تناغم هذا الهدف مع ذلك الداعي، فكان هذا الإيثار العظيم..

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد