علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

كيركجارد ونقد تعقيل الإيمان (2)


حيدر حب الله

لقد قدّم كيركجارد هنا ثلاثة أدلّة لتبرير تخلّيه عن التفكير الآفاقي في الدين هي:
أ ـ برهان التقريب والتخمين
يعتقد كيركجارد أنّ الدراسات التاريخية لو كانت تنتج اليقين لربما ـ جدلاً ـ كان بالإمكان بناء الإيمان عليها، لكنّ التاريخيات لا تنتج يقيناً، بل غاية ما هنالك هو إنتاجها للظنّ والتقريب والتخمين.
بهذا البرهان يتضح جليّاً حجم تأثير حركة النقد التاريخي، خاصّة على مستوى الكتاب المقدّس التي انطلقت مع مثل باروخ اسبينوزا (1677م).. حجم تأثيرها على تفكير كيركجارد، فقد وصلت هذه الحركة إليه فاقدةً الثقة بالتاريخ، وبشكلٍ مركّز التاريخ النقلي (في مقابل التاريخ المحسوس المتمثل بالحفريّات والآثار)، ومن ثمّ لا يمكن بناء المعرفة على أساس التاريخ؛ لأنّ التاريخ لا يخلو من الاحتمالات المتعدّدة ومن فقر المعلومات وغير ذلك ممّا يعيق قدرتنا على الوصول إلى يقينٍ فيه، بل غاية ما في الأمر هو الظنّ والتخمين والترجيح.
إذن الوعي التاريخي في عصر الحداثة أرخى بثقله على كيركجارد، ليسهّل عليه التضحية بالدرس التاريخي عموماً ويقوّي من عزيمته في فكّ الاتصال بين الإيمان والتاريخ.

ب ـ برهان التعليق والإرجاء
هذا المستوى من مقاربة الموضوع التاريخي لا يقف عنده كيركجارد، بل يذهب أبعد من ذلك حين يعتبر أنّ اليقين التاريخي لا يمكنه أن يبني إيماناً؛ لأنّ بناء الإيمان على اليقين التاريخي معناه أنّ أيّ تشكيك تاريخيّ حقيقي في وثاقة الكتب المقدّسة سوف يعني زوال الإيمان! وكأنّ كيركجارد يعتبر أنّ الإيمان يجب أن يُبنى بطريقة لا يمكن معها أن يزول، وبناؤه على البحث التاريخي ولو أنتج يقيناً معناه بناؤه على أمرٍ معلّق، فالعلوم في طور التطور والتكامل بشكلٍ مستمر، سواء في ذلك التجربيّات أم الرياضيّات أم التاريخيّات، وهذا التطوّر المتواصل ـ طولاً وعرضاً نقداً وإبراماً ـ يكشف عن أنّ العلم البشري لا يمكن أن يكون قطعيّاً ونهائيّاً.
ولنعد مرّةً أخرى لمفهوم الإيمان عند كيركجارد، لنجد أنّه التزام كامل غير محدود ولا نهاية له بأمر ما، فإذا كانت بنية العقل النظري للبشر عبر العلوم المختلفة تقع في حال من السياليّة الدائمة وتجديد الرؤية وإعادة النظر، فهذا معناه بناء الإيمان على مخاطرة التعليق والإرجاء، فليس هناك إيمان نهائي في هذه الحال، بل إيمان مرتبط ومرتهن لتطوّرات العلوم ومنجزات العقل النظري للبشر، ومصير المعرفة.
إنّ كيركجارد يعتبر هنا أنّ بناء الإيمان على هذه التجربة المعرفية البشريّة سوف تضعه على قائمة الانتظار؛ لأنّ انتهاء الباحث من كلّ المقدّمات اللازمة في مختلف العلوم والتي تؤثر على تكوّن الحقيقة الإيمانيّة يحتاج لعمرٍ كامل بل أعمار، فكيف يمكن أن نترك الإيمان على لائحة الانتظار حتى تنتهي تلك الرحلة التي لا نعلم، هل تنتهي أصلاً أو لا؟!
لماذا يبدو كيركجارد قلقاً من هذا التأخير، ولماذا تُراه مستعجلاً لتحصيل الإيمان؟
يتساءل بعض الباحثين عن أنّه أليس من الأفضل لنا أن نؤخّر الإيمان حتى نبنيَه على اُسس علميّة متينة؟ فهل العجلة أصلٌ في الإيمان أو الاستحكام هو الأساس؟ ويلتمس هذا الباحث من كلمات كيركجارد الجواب وهو أنّ الإيمان والسعادة الأبديّة مهمّة لدرجة أنّها لا تحتمل التأخير!!([5]).
إنّ هذا الكلام يعني أنّ القضية عند كيركجارد بلغت حدّاً بحيث لا نملك معه فسحة من الوقت، فلسنا في سعة، بل نحن في ضيق، ومن يكون في ضيقٍ من الخطأ أن يعتمد استراتيجيّةً بعيدة المدى، بل عليه أن يضع خطّة سريعة يصل إلى نتائجها في أقرب وقت ممكن، والتشييد المخارج الآفاقي لا يحتوي على مقوّمات خطّة من هذا النوع من وجهة نظر كيركجارد.
تصوّر أنّ تطوراً في العلوم فرض سؤالاً يتصل بإحدى مقدّمات إثبات القضيّة الدينية، إنّ الباحث المؤمن عليه هنا أن يرجع للوراء قهراً، لينظر في هذا المستجدّ ويحقّق في الأمر، إنّ ذلك يعني بالضرورة أنّ عليه أن يتخلّى ـ ولو فترة التحقيق هذه ـ عن إيمانه كي يقوم بالنظر في مقدّمات هذا الإيمان، أفهل يمكن أن يكون هذا الإيمان مقبولاً عند الله؟ هل هو إيمان كامل دائم خالٍ من الحدود؟
والفرق بين بعض النزعات الإسلاميّة وبين رؤية كيركجارد هنا وفق رأي بعض الباحثين هو أنّ الإيمانيّين المسلمين كانوا يشكّكون في إمكانات العقل، ويعتمدون على الشهود والتجربة الروحيّة، بينما نجد أنّ تركيز كيركجارد على التاريخ بوصفه أبرز معلم من معالم الديانة الآفاقيّة، والسبب كما يرى هذا الباحث هو أنّ الجوهر المسيحي قائم على قضيّة الصلب، فكلّ بِنية اللاهوت المسيحي تقوم على هذا المفهوم، والصلب حدثٌ في التاريخ ولا يمكن تخطّيه، لهذا يركّز كيركجارد في نقوده على الدراسات التاريخيّة ومدى قدرتها على مساعدتنا في الوصول إلى يقين بالحقيقة التاريخيّة، لأجل بناء الإيمان على هذا اليقين([6]).

ج ـ برهان الحماسة والهيجان والمخاطرة
رأينا في البرهانين السابقين كيف أنّ كيركجارد أراد أن يفصل بين الإيمان والعقل، خاصّةً العقل التاريخي، لكنّه في هذا البرهان الثالث يرفع من وتيرة التشدّد، فيذهب نحو إيجاد خصومة بين الإيمان والعقل، فهناك فرق بين أن تذهب بالإيمان خارج إطار التعقيل، كما وافق على ذلك حتى توما الأكويني في بعض القضايا الإيمانيّة كالتجسّد، وتحمّس لذلك أكثر جون كالفن (1564م)، وبين أن تأخذه نحو مخاصمة وتصادم مع العقل.
إنّ كيركجارد يرفع وتيرة الأمر نحو هذه المرحلة ليقترب ـ وفق رأي بعض الباحثين المعاصرين([7])، من توجّهات بولس الرسول (64 أو 67م) من جهة أولى، وترتليان/ترتليانوس (220م) من جهة ثانية.
لكن كيف بلغت تأمّلات كيركجارد هذا المستوى؟
إنّ كيركجارد كما رأيناه دوماً يأخذ تعريفاً ومفهوماً خاصّاً للإيمان، ثم يقوم بقراءة جميع الأشياء ضمن هذا التعريف، ولكي نفهم كيركجارد من الضروري فهم فهمه للإيمان، إنّه يرى أنّ من أخصّ خصائص الإيمان هو الحماسة المطلقة من جهة والقلق المطلق من جهة ثانية، فالتديّن هو هذه المخاطرة الرهيبة؛ لأنّ المتديّن هو الذي ينتمي لدينٍ انتماءً حماسيّاً يجعله مستعدّاً للتضحية بكلّ شيء، والتاريخ المسيحي الأوّل (عصور الاضطهاد والشهادة) وحياة القدّيسين، شاهد ذلك كلّه.
انطلاقاً من هذه النقطة، يصبح اليقين بذاته منافياً للإيمان، وهو ما يبدو غير مفهوم من طروحات كيركجارد، فلماذا يكون اليقين منافياً للإيمان وبالتبع فكلّ العلوم المنتجة لليقين تكون كذلك؟!
إنّ كيركجارد يعتبر أنّ الإيمان عنفوان مطلق واقتحام مطلق للمخاطر، فإذا قيل لك: إرمِ نفسك من هذا المكان، وأنت في عتمة الليل لا تعرف ماذا يوجد في الأسفل، فإنّ التزامك اللامحدود بالأمر هو إيمان حقيقيّ، لكن لو انكشف لك أنّ في الأسفل أطناناً من القطن التي تحميك من الاصطدام بالأرض، فإنّ رمي نفسك لن يكون فيه أيّ خاصية إيمانية وحماسية إطلاقاً. إنّ الحماسة الإيمانية لا تكون في حال الطمأنينة، بل في حال المخاطرة، والمؤمن هو من يملك هذا المستوى من العطاء الإيماني ليبقى حيّاً بالأمل لا بالمعرفة، وهذا يعني أنّ اليقين الآتي من العلوم سوف يقتل هذه المخاطرة، ولهذا يرى كيركجارد أنّ الذين يحتاجون للبراهين الدينيّة هم أولئك الذين خسروا الإيمان الحقيقي، وبلغ بهم الأمر أدنى مراتب التديّن، أمّا أولئك الذي يملكون هذا الإيمان فإنّهم ينجذبون دون تفكيرٍ أبداً، بل بتصميم روحي باطني وجودي.
هذا هو مفهوم كيركجارد أيضاً عن التجربة الإبراهيميّة في مسألة ذبح نبيّ الله إبراهيم الخليل لولده، والتي ورد الحديث عنها في العهد القديم وفي القرآن الكريم معاً. إنّ إبراهيم كان مؤمناً حقيقيّاً؛ لأنّ الإيمان هو هذه المخاطرة في اللامعقول، أو هو هذه التبعيّة المطلقة اللامحدودة وفقاً للتسمية الإسلاميّة للكلمة إذا صحّ التعبير، وما كان يمكن للتجربة الإبراهيميّة أن تنجح لو كان الإيمان مُعَقْلَنَاً من وجهة نظر كيركجارد، وبهذا نحن بحاجة للاعقلانيّة في بناء الإيمان بغية نجاح التجربة.
وقفات مع كيركجارد
لعلّه يمكنني أن أقدّم بعض المداخلات الاستفهاميّة على تصوّرات كيركجارد في تعاطيه السلبي مع اليقين والأدلّة المخارجة في موضوع الإيمان.

1 ـ مخاطر نفي التعقيل، أو الإيمان بين السلامة والخرافة
المداخلة الأولى: اعتبر كيركجارد أنّ المحافظة على الإيمان المطلق ضرورة، وبناء على هذه القاعدة اتخذ مواقف من العلوم والتاريخ والفلسفة والعقل واليقين النظري، لكنّ السؤال الأهمّ: لماذا يجب علينا أن نأخذ بالإيمان المطلق؟ بتعبير آخر: لماذا الإيمان؟
يبدو من كيركجارد أنّ الإيمان ساحة ثالثة عليا في الحياة البشريّة، تتسامى عن ساحة اللذّة والحسانيّة، وساحة الأخلاق والنظم القانونيّة، وهذا يعني أنّ الإيمان بوجوده الحقيقي في الذات الفرديّة هو غاية لهذه الذات. وهذا الفهم منسجم جداً مع وجوديّة كيركجارد؛ لأنّ تحقيق الهويّة الإنسانيّة لا يكون عنده إلا بتحقيق هذه الساحة الثالثة المسمّاة بالدين أو الإيمان.
ولهذا ربما لا يكون متعلّق الإيمان مهمّاً عند كيركجارد، بل الفعل الإيماني الباطني هو المهمّ، وانطلاقاً من ذلك تتفتّح تعدّدية كيركجارد عندما يعتبر أنّ المسيحي الذي يدعو الله الواحد ليس بالضرورة أفضل من المشرك الذي يدعو غير الله، فالعبرة ليست بمن يتمّ توجيه الدعاء إليه، بل بمستوى فعل الدعاء بوصفه تجربة باطنية إنسانيّة عميقة.
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يُقحم كيركجارد السعادة الأبديّة؟ بل لو تخطّينا هذه الفكرة هنا فنحن نسأل كيركجارد عن المخاطر التي قد تنجم عن الخطأ في تحييد متعلّق الإيمان، فلو اعتقد الإنسان بألوهيّة الصنم فهل لا توجد أيّ مخاطر أو سلبيات راجعة عليه؟ وهل الفعل الإيماني يرجع على الإنسان بالخير دوماً خاصّة لو أخذنا مفهوم السعادة الأبديّة؟ وهل يمكن مقاربة موضوع من هذا القبيل بالفعل الإيماني نفسه أو لابد من مقاربته بالعقل والتاريخ والحقيقة الخارجيّة أيضاً؟

من هنا، يبدو لنا بليز باسكال (1662م) أكثر جدّيةً وواقعيّة من كيركجارد، فباسكال في مقاربته المشهورة يعتبر أنّ قضيّة (الله) إذا لم تثبت أو يتمّ نفيها فهي مشكوكة، والخطوة السليمة في التعامل مع هذا المشكوك هو البناء عليه لا إلغاءه؛ لأنّ المخاطر الناجمة عن إلغائه في الحياة لو فرض أنّه واقعاً موجود، هي أكبر بكثير من المخاطر الآتية من وراء الأخذ به، ولو فرض أنّه غير بموجود. إنّ باسكال يتعامل هنا مع واقع خارجي برؤية عملانيّة، بينما كيركجارد يفصلنا عن الواقع الخارجي ويحوّلنا كرجل معلّق في الفضاء!
ـــــــــــــ
([5]) انظر: رضا أكبري، إيمان گروى (نظريات كرکگور ویتنگشتاین وبلانتینگا): 34، نشر بژوهشگاه فرهنگ وعلوم اسلامی، إیران، الطبعة الثانية، 2007م.
([6]) انظر: رضا أكبري، إيمان گروى: 35 ـ 36.
([7]) انظر: المصدر نفسه: 39.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد