علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الصدر
عن الكاتب :
ولد في مدينة الكاظمية المقدسة في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1353 هـ، تعلم القراءة والكتابة وتلقى جانباً من الدراسة في مدارس منتدى النشر الابتدائية، في مدينة الكاظمية المقدسة وهو صغير السن وكان موضع إعجاب الأساتذة والطلاب لشدة ذكائه ونبوغه المبكر، ولهذا درس أكثر كتب السطوح العالية دون أستاذ.rnبدأ بدراسة المنطق وهو في سن الحادية عشرة من عمره، وفي نفس الفترة كتب رسالة في المنطق، وكانت له بعض الإشكالات على الكتب المنطقية. بداية الثانية عشرة من عمره بدأ بدراسة كتاب معالم الأصول عند أخيه السيد إسماعيل الصدر، سنة 1365 هـ هاجر إلى النجف الاشرف، لإكمال دراسته، وتتلمذ عند آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين وآية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي. أنهى دراسته الفقهية عام 1379 هـ والأصولية عام 1378 هـ عند آية الله السيد الخوئي.rnمن مؤلفاته: فدك في التاريخ، دروس في علم الأصول، نشأة التشيع والشيعة، فلسفتنا، اقتصادنا وغير ذلك.

عناصر المجتمع (2)


السيد محمد باقر الصدر

ب- الصيغة الثلاثيّة
في مقابلها يوجد للعلاقة الاجتماعيّة صيغة ثلاثيّة الأطراف، صيغة تربط بين الإنسان والإنسان، والطبيعة، ولكنّها تقطع صلة هذه الأطراف مع الطرف الرابع، تجرّد تركيب العلاقة الاجتماعيّة عن البُعد الرابع، عن الله سبحانه وتعالى، وبهذا تتحوّل نظرة كلّ جزءٍ إلى الجزء الآخر، داخل هذا التركيب، وداخل هذه الصيغة.
وُجدت ألوانٌ مختلفةٌ للملكيّة وللسيادة، سيادة الإنسان على أخيه الإنسان، بأشكالها المختلفة، التي استعرضها التاريخ بعد أن عطّل البُعد الرابع، وبعد أن افترض أنّ البداية هي الإنسان، حينئذٍ تنوّعت على مسرح الصيغة الثلاثيّة أشكال الملكيّة، وأشكال سيادة الإنسان على أخيه الإنسان.
المقارنة بين الصيغتين
وبالتدقيق في المقارنة بين الصيغتين، الصيغة الرباعيّة والصيغة الثلاثيّة، يتّضح أنّ إضافة الطرف الرابع للصيغة الرباعيّة ليس مجرّد إضافة عدديّةٍ، ليس مجرّد طرفٍ جديدٍ يُضاف إلى الأطراف الأخرى، بل إنّ هذه الإضافة تُحدث تغييراً نوعيّاً في بُنية العلاقة الاجتماعيّة، وفي تركيب الأطراف الثلاثة الأخرى نفسها. من هنا ليس هذا مجرّد عملية جمع ثلاثةٍ زائد واحدٍ، بل هذا الواحد الذي يُضاف إلى الثلاثة سوف يُعطي للثلاثة روحاً أخرى، ومفهوماً آخر، سوف يحدث تغييراً أساسيّاً في بنية هذه العلاقة ذات الأطراف الأربعة كما رأينا، إذ يعود الإنسان مع أخيه الإنسان مجرّد شريك في حمل هذه الأمانة والاستخلاف، وتعود الطبيعة بكلّ ما فيها من ثرواتٍ، وبكلّ ما عليها ومَن عليها، مجرّد أمانةٍ لا بدّ من رعاية واجبها وأداء حقّها. هذا الطرف الرابع هو في الحقيقة مغيّرٌ نوعيٌّ لتركيب العلاقة.

3 ـ الاستخلاف سنّة تاريخيّة 
إذاً أمامنا للعلاقة الاجتماعيّة صيغتان صيغة رباعيّة وصيغة ثلاثيّة. والقرآن الكريم آمن بالصيغة الرباعيّة كما رأينا في الآية الكريمة. الاستخلاف هو الصيغة الرباعيّة للعلاقة الاجتماعيّة. لكن القرآن الكريم رغم أنّه آمن بالصيغة الرباعيّة في المقام، اعتبر الصيغة الرباعيّة سنّةً من سنن التاريخ، كما رأينا في الآية السابقة كيف اعتبر الدين سنّةً من سُنن التاريخ، كذلك اعتبر الصيغة الرباعيّة للعلاقة الاجتماعيّة ـ التي هي صيغة الدين في الحياة ـ اعتبر هذه العلاقة بصيغتها الرباعيّة سنّةً من سنن التاريخ، كيف؟
أنحاء الصيغة الرباعيّة
هذه الصيغة الرباعية عرضها القرآن الكريم على نحوين:
1 ـ عرضها تارةً بوصفها فاعليّةً ربانيّةً، من زاوية دور الله سبحانه وتعالى في العطاء؛ وهذا هو العرض الذي قرأناه ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾. هذه العلاقة الرباعيّة معروضةٌ في هذا النصّ الشريف باعتبارها عطاءً من الله، جعلاً من الله، يمثّل الدور الإيجابيّ والتكريميّ من ربّ العالمين للإنسان.
2 ـ وعرض الصيغة الرباعيّة نفسها من زاويةٍ أخرى؛ عرضها بوصفها وبنحو ارتباطها مع الإنسان، بما هي أمرٌ يتقبّله الإنسان، عرضها من زاويةِ تقبّل الإنسان لهذه الخلافة، وذلك في قوله سبحانه وتعالى ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾7.

العرض التكوينيّ للأمانة
الأمانة هي الوجه التقبّليّ للخلافة. والخلافة هي الوجه الفاعليّ والعطائيّ للأمانة. الأمانة والخلافة عبارةٌ عن الاستخلاف والاستئمان وتحمّل الأعباء، عبارة عن الصيغة الرباعيّة. هذه الصيغة الرباعيّة تارةً نلحظها من زاوية ربطها بالفاعل وهو الله سبحانه وتعالى، فيأتي قوله ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، وأخرى نلحظها من زاوية القابل كما يقول الفلاسفة، من ناحية دور الإنسان في تقبل هذه الخلافة وتحمّل هذه الأمانة، فيأتي قوله سبحانه وتعالى ﴿إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ...﴾ وهذه الأمانة التي تقبّلها الإنسان، وتحمّلها الإنسان، عُرضت على الإنسان فتقبّلها الإنسان بنفس هذه الآية الكريمة. هذه الأمانة أو هذه الخلافة، أو بالتعبير الذي قلناه؛ هذه العلاقة الاجتماعيّة بصيغتها الرباعية، هذه لم تُعرض على الإنسان في هذه الآية بوصفها تكليفاً أو طلباً، ليس المقصود من عرضها على الإنسان هو العرض على مستوى التكليف والطلب، وليس المقصود من تقبّل الأمانة هو تقبّل هذه الخلافة على مستوى الامتثال والطاعة، ليس المقصود أن يكون هكذا العرض، وأن يكون هكذا التقبّل، بقرينة أنّ هذا العرض كان معروضاً على السماوات والأرض والجبال أيضاً، فمن الواضح أنّه لا معنى لتكليف السماوات والجبال، من ذلك نستنتج أنّه عرضٌ تكوينيٌّ لا عرضٌ تشريعيٌّ. هذا العرض معناه أنّ هذه العطيّة الربانيّة كانت تفتّش عن الموضع القابل لها في الطبيعة، الموضع المنسجم معها بطبيعته، بفطرته، بتركيبه التاريخيّ والكونيّ، الجبال لا تنسجم مع هذه الخلافة، السماوات والأرض لا تنسجم مع هذه العلاقة الاجتماعيّة الرباعيّة، الكائن الوحيد، الذي بحكم تركيبه، بحكم بنيته، بحكم فطرة الله التي قرأناها في الآية السابقة، كان منسجماً مع هذه العلاقة الاجتماعيّة ذات الأطراف الأربعة، التي بها تصبح أمانةً، تصبح خلافةً.
إذاً العرض هنا عرضٌ تكوينيٌّ، والقبول هنا قبولٌ تكوينيٌّ، وهو معنى سنّة التاريخ، يعني أنّ هذه العلاقة الاجتماعيّة ذات الأطراف الأربعة، داخلةٌ في تكوينيّة الإنسان، وفي تركيب مسار الإنسان الطبيعيّ والتاريخيّ.

تحدّي الأمانة
ونلاحظ أنّه في هذه الآية الكريمة أيضاً، جاءت الإشارة إلى هويّة هذه السنّة التاريخيّة، وأنّها سنّةٌ من الشكل الثالث، سنّةٌ تقبل التحدّي وتقبل العصيان، ليست من تلك السُنن التي لا تقبل التحدّي أبداً ولو لحظةً، لا.. هي سنّةٌ، هي فطرةٌ ولكن هذه الفطرة تقبل التحدّي.
كيف أشار القرآن الكريم إلى ذلك بعد أن وضّح أنّها سنّةٌ من سُنن التاريخ؟ قال: ﴿وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾. هذه العبارة الأخيرة ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ تأكيدٌ على طابع هذه السنّة، وأنّ هذه السنّة على الرغم من أنّها سنّةٌ من سُنن التاريخ، ولكنّها تقبل التحدّي، تقبل أن يقف الإنسان منها موقفاً سلبيّاً. هذا التعبير يوازي تعبير ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾8 في الآية السابقة.

نتائج من الآيتين
إذاً الآية السابقة استخلصنا منها: أنّ الدين سنّةٌ من سُنن الحياة، ومن سُنن التاريخ.
ومن هذه الآية نستخلص: أنّ صيغة الدين للحياة، التي هي عبارةٌ عن العلاقة الاجتماعيّة الرباعيّة، العلاقة الاجتماعيّة ذات الأطراف الأربعة، التي يسمّيها القرآن بالخلافة والأمانة والاستخلاف، هذه العلاقة الاجتماعيّة، هي أيضاً بدورها سُنّةٌ من سُنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم. 
فالحقيقة أنّ الآية الأولى، والآية الثانية، متطابقتان تماماً في مفادهما، لأنّه في الآية السابقة قال ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾9. التعبير بالدين القيّم تأكيدٌ على أنّ ما هو الفطرة، وما هو داخلٌ في تكوين الإنسان وتركيبه، وفي مسار تاريخه هو الدين القيّم، يعني أن يكون هذا الدين قيّماً على الحياة، أن يكون مهيمناً على الحياة. هذه القيوميّة في الدين، هي التعبير المجمل في تلك الآية عن العلاقة الاجتماعيّة الرباعيّة، التي طرحت في الآيتين، في آية ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾، وآية ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ...﴾. إذاً، فالدين سنّة الحياة والتاريخ، والدين هو الدين القيّم، والدين القيّم هو العلاقة الاجتماعيّة الرباعيّة الأطراف، التي يدخل فيها الله بُعداً رابعاً، لكي يحدث تغييراً في بُنية هذه العلاقة، لا لكي تكون مجرّد إضافةٍ عدديّةٍ.
ــــــــــــــ
6- (أي في المقابل) الصيغة الإجتماعية الرباعية الأطراف. التي صاغها القرآن الكريم تحت اسم الاستخلاف.ترتبط بوجهة النظر المعينة للحياة و الكون.
7- الاحزاب: 72.
8-  الروم:30.
9- الروم:30.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد