قراءة في كتاب

(شرح توحيد الصدوق) للقاضي العارف سعيد القمي


تأصيل قرآني عرفاني للأسماء والصفات الإلهية المقدسة
محمود إبراهيم
قد لا نضيف جديداً لو قلنا أن كتاب التوحيد للشيخ الصدوق (المتوفى 380هـ) هو أحد أعظم ما اختزنه التراث الإسلامي من أعمال متصلة بالمعارف التوحيدية والحكم الإلهية. صحيح أن ما جاء في هذا الفضاء الفسيح كثير وجليل، ولا سيما لجهة ما قدمه الفلاسفة والحكماء وعلماء الأصول في مجال الحكمة وفلسفة الأخلاق ومعارف السير والسلوك، إلا أن لتوحيد الصدوق مزايا مخصوصة، تنعقد على الجملة في جمعه الخلاّق بين فهم كتاب الله تبعاً لبيانات أئمة أهل بيت النبوة عليهم السلام، وما جاء في كتب الحكمة والفلسفة من مقاربات لواجب الوجود تعالى في أسمائه وصفاته وأفعاله. فلقد امتاز عصر الصدوق بازدهار إقبال العلماء على تراث الأئمة المعصومين عليهم السلام في شتى الموضوعات، ولاحقاً بعد قرون قام الكثير من أعاظم العلماء بجمع الأحاديث وشرحها، منهم: السيد محمد باقر الداماد (المتوفى 1040هـ) بتعليقه على الصحيفة السجادية وغيره، وصدر المتألّهين الشيرازي المشهور بـ ملا صدرا (المتوفى 1050هـ) في شرح أصول الكافي، والمولى محمد محسن الفيض الكاشاني (1006- 1091هـ) بتأليف الوافي، والمولى محمد باقر المجلسي (1038 – 1111هـ) بتأليفه بحار الأنوار، والشيخ محمد حسن الحرّ العاملي (المتوفى 1104هـ) بتأليفه وسائل الشيعة، ومئات آخرون لا يسعنا ذكر أسمائهم وعناوين آثارهم، ومن أبرزهم القاضي سعيد القمي بتأليفه كتباً ورسائل أهمها شرحه على كتاب التوحيد للصدوق. 

حكاية الكتاب وشرحه
"التوحيد" كتاب ألّفه الشيخ الصدوق، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (المتوفى 381هـ) وقد جمع فيه أحاديث التوحيد وما يتعلق به من صفات الله وأسمائه وأفعاله في سبعة وستين بابًا وهو مشهور بالتوحيد، وتوحيد الصدوق، وتوحيد ابن بابويه. واشتهاره واعتماد العلماء عليه يغنينا عن مزيد الكلام فيه. وللتوحيد شروح، منها:
الأول : شرح التوحيد للقاضي سعيد القمي وهو هذا الكتاب.
الثاني: شرح للجزائري، السيد نعمة الله بن عبد الله التستري (المتوفى 1112هـ) سمّاه أنيس الوحيد في شرح التوحيد ألفه سنة 1099هـ. (ومنه نسخة نفيسة بالمكتبة العامة بأصفهان رقم 278، استنسخ سنة 1102هـ وقرئ على المصنف من أوله الى آخره سنة 1104 هـ، ونسخة مستنسخة من الأولى بمكتبة ملك بطهران رقم 3537.
الثالث: شرح للأمير محمد علي نائب الصدارة بقم المشرفة.
الرابع: شرح بالفارسية للمولى محمد باقر بن محمد مؤمن السبزواري المدفون بمشهد الرضا عليه السلام، فرغ منه سنة 1090هـ.

القاضي سعيد القمي هو صاحب أول شرح جامع ومميز لكتاب توحيد الصدوق، واللافت أنه لم يسم شرحه باسم خاص. فتارة يعبّر عنه بشرح كتاب التوحيد وتارة شرح التوحيد. ففي مقدمة المجلد الأول، ولدى مطالعة كتاب التوحيد كان الشارح يعلق عليه بصورة متفرقة ثم ينتقل إلى جمع المتفرقات في الهوامش "حتى لقد جاءت شروحه على ما يقول بصيغة صحيفة تقرب من صحف الأقدمين وتبعد عن فهم المحدثين". ولعل ما وصل إلينا من شرحه، ثلاثة مجلدات ولم يُعثر على المجلد الرابع وإن نقل صاحب الذريعة أنه رأى هذا الشرح في كرمانشاه في أربعة مجلدات، وكتب في آخر المجلد الثالث نسخة مكتبة الملك بطهران: "ويليه المجلد الرابع" ويشير هو نفسه إليه أيضاً. وأما تاريخ شروعه بتصنيف المجلد الأول وإتمامه فهو عموماً غير معلوم.
وحسب التحقيقات فقد فرغ الشارح من تصنيف المجلد الثاني عصر يوم الأربعاء لخمس مضين من محرم الحرام مبتدأ سنة 1099 هـ في أصفهان.
وهو مقارن مع فراغ السيد نعمة الله الجزائري من شرحه أيضًا في هذه السنة. وفي أول الباب الخامس عشر من المجلد الثاني يشير إلى توارد العوائق في أثناء هذا الشرح. ويحتمل أن يكون المقصود ما ورد عليه من غضب السلطان سليمان الصفوي بعد سنة 1077 هـ سنة جلوس السلطان. ويظهر من قوله في مفتتح الباب الثاني عشر من المجلد الثاني، باب تفسير قول... كل شيء هالك، القاعدة الأولى: "وهي التي ذكرها قبل ذلك في كتابه الأربعين بثمان عشرة من السنين"، ويشير إلى أنه كان مشتغلاً به في سنة 1097هـ. أما ما يتصل بالمجلد الثالث فإن وقت إنجازه كان في الثامن عشر من شهر رمضان المبارك سنة 1107هـ ، يؤيد ذلك ما قاله فيه، أنه شرح حديث "إن الله خلق أسماء بالحروف" قبل ذلك بخمس وعشرين سنة في الأربعين، وكذا ما قال في حكاية أنه رأى في منامه ليلة العاشر من شهر ميلاد سيد المرسلين صلّى الله عليه وآله، سنة ثلاثة ومائة وألف.

في المجلد الأول يشرح القمي أحاديث الباب الأول والثاني من كتاب التوحيد. وله فيه مجال واسع للبحث وعرض الآراء ونقدها والتعرض لمختلف الموضوعات الفلسفية والكلامية والورود في المشارب الذوقية والعرفانية وخاصة العناية بتأويل الأحاديث على مواجيده التي يقول فيها غير مرة أنها من فيض الله وإلهامه وتأييده. كما تعرض فيه لكلمات كثير من المتقدمين والمتأخرين.
ومن معضلات كتابه أنه لم ينقل الأحاديث في موارد كثيرة بلفظها بل بمعناها ومقاصدها. وهذا عائد إلى أن منهجه في الحكمة يطابق مشرب أستاذه المولى رجب علي التبريزي وفي شرح الأحاديث والتأويل إلا أن هذا لا يعني أنه كان له مشرب خاص. ومما اعتنى به في هذا الكتاب بحث الصفات وقد بذل جهده في رد القول بعينية الصفات مع الذات أو زيادتها عليها مستشهداً بالأحاديث.
ومما اعتنى به أسرار العبادات في هذا الباب فقد كان له جولة معمقة في عالم الشيخ محيي الدين العربي سواء في فصوص الحكم أو الفتوحات المكية واقتبس منه كثيراً، إلا أن ما تميز به القمي هو الإحالة إلى أحاديث الأئمة المعصومين عليهم السلام، والاستشهاد بأقوالهم وخصوصاً تلك التي وردت عنهم عليهم السلام في ميدان معرفة الذات القدسية والأسماء والصفات والأفعال الإلهية. وباستشهاده بالأحاديث عن الأئمة المعصومين وتعمّقه الروحي في التأويل وإلمامه بموضوع أسرار العبادات، يمتاز عن كل من ورد هذا المورد الدقيق من المتقدمين والمتأخرين.
مع شرح "توحيد الصدوق" للقاضي القمي نحن أمام منجزٍ علمي كبير في ميدان حكمة التوحيد تناولت جلّ المعارف التي يختزنها التراث الديني الإسلامي من الفلسفة إلى المنطق إلى علم الكلام إلى علم الفقه والأصول ناهيك عن العرفان بجناحيه النظري والعملي. فعلى الرغم من المسافة الزمنية الشاسعة التي تفصلنا عن هذا الكتاب ومؤلفه، يمكن القول أننا بإزاء قيمة علمية راهنة لا مناص من العناية بها وتظهيرها في الدراسات والأبحاث الإسلامية المعاصرة.
ــــــــــــ
مجلة شعائر - العـدد السابع والثمانون

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد