علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

الحديث النبوي المنقول في ضوء إشكالية تأخر التدوين لقرون


حيدر حب الله
إنّ ما ذكره المستشرق المشهور غولدزيهر وغيره من أنّ السنّة لم تكتب إلا بعد ثلاثة قرون يمكن مناقشته، لكن لا بمعنى أنّ السنّة كانت قد كتبت في القرن الأوّل الهجري، أو أنّها قد كتبت برمّتها في القرن الثاني الهجري، إذ من الواضح أنّ المجاميع الحديثيّة الكبرى لم نجد مخطوطات لأحاديثها برمّتها في القرن الأوّل أو الثاني، وهذا شيء ينبغي أن نقرّ به عند الشيعة والسنّة معاً، لا فرق في ذلك على الإطلاق بما يتعلّق بالمرويّات النبويّة، لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو أنّ الكتابة هل هي العنصر التوثيقي الوحيد للسنّة وأنّ التناقل الشفويّ لا يمكن أن يكون كافياً في هذا السياق أو لا؟ فلنفترض أنّ هناك كتاباً لشخص من الأشخاص في القرن الهجري الأوّل وقد احتوى هذا الكتاب على مجموعة وافرة من الأحاديث النبويّة الشريفة لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو هل وجود تدوين للسنّة في القرن الأوّل الهجري يكفي لإثبات صحّة الرواية أو لا؟ من الممكن أن يكون هذا الكتاب قد اختُلق، تماماً كما يمكن أن تكون الرواية الشفويّة قد اختُلقت، وهذا يعني أنّ تدوين الحديث في القرنين الأولين لا يحسم سلامة الحديث، وعدم تدوينه لا يبطل قيمة تناقله؛ لأنّ القوّة الاحتماليّة في النقل الشفوي لا تنتهي تماماً، والقوّة الاحتماليّة في النقل التدويني لا تبلغ دائماً حدّ الوثوق والاطمئنان بسلامة النقل.

نعم، إنّ القيمة الخاصّة في هذا السياق هي في نوعيّة النقل، أرجو أن ندقّق قليلاً هنا، فالنقل الشفوي بطبيعته لا يمكنك التثبّت من أنّه نقلٌ باللفظ ما لم تقم شواهد إضافيّة، ومن ثمّ أنت أمام نقل فكرة، وعندما تمرّ خمسة أجيال، وكلّ جيل ينقل الفكرة، ثم يعيد إنتاج صياغة الحديث بلغته قبل أن ينتشر الحديث كصيغة ثابتة لغويّة لفظيّة مدوّنة، فنحن أمام خطر تشوّه الحديث ولو من غير قصد، بينما الكتابة عندما يتمّ استنساخ الكتاب في الجيل اللاحق، عادةً ما يكون الاستنساخ باللفظ. 
إذن نحن في قضيّة عدم تدوين السنّة لا نستطيع أن نقول بأنّ الشفويّة أو التناقل الشفوي ـ ولو كان متعدّد الطرق والأسانيد ـ لا يكفي، ولا يملك قيمة تاريخيّة بالمطلق، بينما التناقل الكتبي ـ ولو لم يكن متعدّد الطرق والأسانيد ـ يكفي.. لا.. القضية ليست كذلك.

نعم التناقل الكتبي له مجموعة من الميزات التي تضبط لنا ـ بنسبةٍ أعلى ـ نصوص الحديث، ومن ثمّ كلّما حصلنا على مدوّنات كتبيّة ترجع إلى القرون الأولى، يمكن لنا أن نقترب أكثر من الصيغة التي صدرت من شخص النبي (ص).. نعم، هذه النقطة جوهريّة، وأنا أوافق غولدزيهر في أنّ عدم تدوين السنّة على نطاق واسع في القرنين الهجريّين الأوّلين، ممكن أن يكون قد أدّى إلى حصول التناقل الشفوي، والتناقل الشفوي يفتح علينا ـ تلقائيّاً ـ باب النقل بالمعنى، والنقلُ بالمعنى يفضي ـ تلقائيّاً أيضاً ـ إلى عدم إمكان إقامة الحجاج على حرفيّات النصّ الذي تمّ نقله، أمّا الحديث بشكلٍ مطلق بأنّه لم تكن السنّة متداولة أصلاً في القرنين الأولين، أو لم تكن هناك كتابة بالمطلق، فأعتقد بأنّ الشواهد التاريخيّة على عكس ذلك، غاية الأمر أنّ القضية كانت محدودة، وأنّك عندما تتكلّم عن القرن الثالث فما بعد، فأنت تتكلّم عن مساحة واسعة، ومن الطبيعي أنّني أقبل بأنّ هذا من شأنه أن يدفعنا إلى التريّث، وأن يدفعنا إلى التعامل بجدّية أكثر مع الحديث، وعدم التعاطي معه بضربٍ من التسامح.

وخلاصة كلامي: إنّ التناقل الشفوي لا يفقد قيمته بالمرّة، ولا التناقل الكتبي يُثبت ذاتَه دائماً، لكنّ التناقل الكتبي تقلّ فيه فرص الأخطاء والالتباسات قياساً بالتناقل الشفوي.