قراءة في كتاب

(فلاح السائل ونجاح المسائل) لصدر العلماء السيّد ابن طاوس

 

منظومة معرفيّة متكاملة في العبادة والتخلُّق
تعليق وقراءة: محمود إبراهيم
مجلة شعائر
مع كتاب (فلاح السائل ونجاح المسائل) للفقيه والعارف الكبير أبي القاسم عليّ بن موسى بن طاوس العلويّ الحسينيّ قدّس سرّه، نجدنا أمام أحد أبرز المنجزات في عالم المعرفة العقائديّة الإسلاميّة ونظام عملها. فالكتاب يشكّل منظومة عباديّة وأخلاقيّة وتربويّة وثقافيّة في غاية الإتقان. وقد بذل السيّد ابن طاوس جلّ جهده لكي يُظهر عمله على الملأ الإسلامي كرسالة هداية وترشيد لأبناء الأُمّة من الخاصّة والعامّة على السواء.
ولعلّ ما يضاعف من منزلته الرفيعة أنّ كتاب (فلاح السائل) لمّا صدر في حينه ملأ فراغاً روحيّاً ومعنويّاً كان حلّ بقسوته على المجتمع الإسلامي، لا سيّما لجهة ما أدّت إليه الفتن والنزاعات الداخليّة وانحراف السلطة الحاكمة من آثار جدّ سلبيّة على الثقافة الإسلامية، وخصوصاً في مجال التديّن والالتزام بالعبادات والأحكام الشرعيّة.
ولئن كان هذا الكتاب بمثل هذه المنزلة زمنَ صدوره في القرن السابع الهجري، فهو ينطوي اليوم - أي بعد ثمانية قرون على تأليفه - على منزلة كبيرة من الأهميّة والرفعة. ذلك بأنّ المنظومة العباديّة والمعنويّة التي يتضمّنها توفِّرُ البناءَ التعليمي المتكامل للعمل العبادي، كما تستجيبُ بعمق لحاجات الأُمّة وهي تواجه الغزوات الثقافيّة والفكريّة وعمليات إفساد معنوي وأخلاقي قلّ نظيره.

محتوى المنظومة ومقاصدها
مَن يقرأ الجهد الذي قدمه السيّد ابن طاوس في كتاب (فلاح السائل)، سيجد نفسه أمام هندسة معصومة في عمل اليوم والليلة. فقد توزّع الكتاب على ثلاثين فصلاً جرى ترتيبه طبقاً لأوقات الصلوات الخمس وتعقيباتها، فضلاً عن الأعمال العباديّة الداخلة في باب الدعاء والمناجاة وتزكية النفس وآداب السير والسلوك.
من هنا تتحدث الفصول عن تعظيم الصلاة، وصفة الصلاة، وفضيلة الدعاء، وكيفيّة مناجات الرحمن، وصفات الداعي، والمناجاة، والدعاء للأئمّة عليهم السلام، والعترة الطاهرة، وصفة التراب، والغسل عقلاً ونقلاً، وصلاة العصر، وصفة الأذان والإقامة، وما يُقال عند دخول المساجد، وعند زوال الشمس، ودعاء الغروب، وصلاة الفجر، وصلاة العشاء الأخيرة وتعقيبها، وصلاة الوتيرة، وما ينبغي القيام به قبل النوم، وعند الاستيقاظ في الليل.
يمكن القول على وجه الإجمال إنَّ كتاب (فلاح السّائل ونجاح المسائل في عمل اليوم واللّيلة) هو من كُتب الأدعية التي ألّفها السيّد ابن طاوس، وقسّمه إلى جزئين:
الجزء الأوّل: في الأدعية الواردة في الظُّهر والليل.
والجزء الثاني: فيما ورد من أدعية من حين اليقظة ووقت صلاة الليل إلى وقت الظهر. 

غايته من كتابه
على سياق ما اعتدنا عليه في مؤلّفات السيّد ابن طاوس لجهة الأسباب التي دفعته إلى تأليف كُتبه، من المهمّ أن ننقل ما ذكره في مقدّمة (فلاح السائل)، وفيه يبيّن لنا الدافع الروحي والتربوي لإنجاز هذا الكتاب، فيقول:
«فلمّا رأيت فوائد الخَلوة والمناجاة وما فيها من مراده لعبده من العزّ والجاه والظفر بالنجاة والسعادات في الحياة وبعد الوفاة، وجدت في (المصباح الكبير) الذي صنّفه جدّي أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي رحمه الله، لبعض أُمّهاتي،  شيئاً عظيماً من الخير الكثير. ثمّ وقفتُ بعد ذلك على تتمّات ومهمّات فيها مراد من يحبّ لنفسه بلوغ غايات ولا يقنع بالدون ولا يرضى بصفقة المغبون.... فعزمتُ أن أجعل ما اختاره بالله، جلّ جلاله، ممّا رويتُه أو وقفتُ عليه وما يأذنُ جلّ جلاله في إظهاره من أسراره.... وما هداني إليه كتاباً مؤلّفاً أُسمّيه كتاب (تتمات مصباح المتهجّد ومهمّات في صلاح المتعبّد)، وها أنا ذا مرتّبٌ ذلك بحول الله جلّ جلاله في عدّة مجلّدات بحسب ما أرجوه من المهمّات والتتمّات».
وقد عدّد المؤلّف ما سمّاه (تتمّات للمصباح الكبير) وهي عشرة مجلّدات جاءت على الترتيب التالي:
المجلّد الأول والثاني عنوانهما: (فلاح السائل في عمل اليوم والليلة). وهو الكتاب موضوع القراءة.
المجلّد الثالث: (زهرة الربيع في أدعية الأسابيع).
المجلّد الرابع: (كتاب جمال الأسبوع بكمال العمل المشروع).
المجلّد الخامس: (كتاب الدروع الواقية من الأخطار فيما يُعمَل مثله كلّ شهر على التكرار)
المجلّد السادس: (كتاب المضمار للسباق واللّحاق بصوم شهر إطلاق الأرزاق وعتاق الأعناق).
المجلّد السابع: (كتاب السالك المحتاج إلى معرفة مناسك الحجّاج).
المجلّد الثامن والتاسع: وجاءا تحت عنوان (كتاب الإقبال بالأعمال الحسنة فيما نذكره ممّا يُعمَل ميقاتاً واحداً كلّ سنة).
أما المجلّد العاشر والأخير: فكان بعنوان (كتاب السعادات بالعبادات التي ليس لها وقتٌ محتومٌ معلومٌ في الروايات).

أسلوبيّة الكتابة
كان قصد السيّد ابن طاوس رحمه الله - كما ذكر في مقدّمة الكتاب - تتميم (المصباح الكبير) لجدّه الشيخ الطوسي رحمه الله، لكنّه ما لبث أن غيّر رأيه وجعل كتابه (فلاح السائل) كتاباً مستقلاًّ عن المصباح.
أمّا السبب فيعود إلى أمرين على ما يتبيّن:
أولاً: إلى أنّ السيّد ابن طاوس أراد تأليف كتابٍ حاوٍ لأعمال اليوم والليلة، فذكر الروايات الواردة في الباب وعلّق على ما يحتاج منها إلى التوضيح، تارةً بصورة مختصرة وأخرى مفصّلة.
وثانياً: لأنّه أراد أن يكون لهذا الكتاب مكانة خاصّة ومنفردة.
وحيث إنّ (فلاح السائل) هو أوّل التتميمات التي ذكرها السيّد، لذا فقد ذكر طُرقه وأسانيده في نقل الأحاديث والروايات إلى المعصوم، وفي المقدّمة سنرى كيف توجّه إلى قارئه موضحاً منهجه في نقل الأحاديث والروايات الصحيحة عن المعصومين عليهم السلام. يقول:
«اعلم أنّني أروي فيما أذكر من هذا الكتاب رواياتٍ وطريقي إليها من خواصّ أصحابنا الثّقات، وربّما يكون في بعضها بين بعض الثّقات المشار إليهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وآله أو أحد الأئمّة صلوات عليهم رجلٌ مطعونٌ عليه بطعنٍ من طريق الآحاد، أو يكون الطعنُ عليه بروايةِ مطعونٍ عليه من العباد، وبسبب محتمَل لعذر للمطعون عليه يعرف ذلك السبب، أو يمكن تجويزه عند أهل الانتقاد، وربما يكون عذري أيضا فيما أرويه عن بعض مَن يُطعن عليه أنني أجدُ مَن اعتمد عليه من ثقات أصحابنا الذين أسندتُ إليهم عنه، أو إليه عنهم، قد رووا ذلك عنه، ولم يستثنوا تلك الرواية ولا طَعنوا عليها ولا تركوا روايتها، فأقبلُها منهم وأُجوّز أن يكونوا قد عرفوا صحّة الرواية المذكورة بطريقة أخرى محقّقة مشكورة، أو رأوا عمل الطائفة عليها فاعتمدوا عليها، أو يكون الراوي المطعون على عقيدته ثقةً في حديثه وأمانته».
بذلك سنجد السيّد ابن طاوس حريصاً على تظهير ما يريد كتابته بمنهجيّة مخصوصة انفرد بها في كثيرٍ من الأحيان عن سواه من سابقيه ومعاصريه. لكنها في كل الأحوال منهجيّة تطابق قواعد عِلم الرجال والحديث من دون أن يستغرق في الشكليات العارضة على حساب المحتوى والمقصد.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد