علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الصدر
عن الكاتب :
ولد في مدينة الكاظمية المقدسة في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1353 هـ، تعلم القراءة والكتابة وتلقى جانباً من الدراسة في مدارس منتدى النشر الابتدائية، في مدينة الكاظمية المقدسة وهو صغير السن وكان موضع إعجاب الأساتذة والطلاب لشدة ذكائه ونبوغه المبكر، ولهذا درس أكثر كتب السطوح العالية دون أستاذ.rnبدأ بدراسة المنطق وهو في سن الحادية عشرة من عمره، وفي نفس الفترة كتب رسالة في المنطق، وكانت له بعض الإشكالات على الكتب المنطقية. بداية الثانية عشرة من عمره بدأ بدراسة كتاب معالم الأصول عند أخيه السيد إسماعيل الصدر، سنة 1365 هـ هاجر إلى النجف الاشرف، لإكمال دراسته، وتتلمذ عند آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين وآية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي. أنهى دراسته الفقهية عام 1379 هـ والأصولية عام 1378 هـ عند آية الله السيد الخوئي.rnمن مؤلفاته: فدك في التاريخ، دروس في علم الأصول، نشأة التشيع والشيعة، فلسفتنا، اقتصادنا وغير ذلك.

التأثير المتبادل بين علاقة الإنسان مع الطبيعة وأخيه (1)

 

السيّد محمد باقر الصدر
إنّ خطّ علاقات الإنسان مع الطبيعة مختلف مشكلة وقانوناً عن خطّ علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، وذكرنا أن هذين الخطين كل واحد منهما مستقل استقلالاً نسبياً عن الخط الآخر، وهذا التأثير المتبادل بين الخطين، يمكن إبرازه ضمن علاقتين قرآنيتين بين هذين الخطين؛ العلاقة الأولى تبرز مدى تأثير خطّ علاقات الإنسان مع الطبيعة على خطّ علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان.
والعلاقة القرآنيّة الثانية، تبرز من الجانب الآخر مدى تأثير علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان على علاقات الإنسان مع‏ الطبيعة. أما العلاقة الأولى التي تبرز تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة على الخط الآخر، فمؤدى هذه العلاقة هو أنه كما نمت قدرة الإنسان على الطبيعة، واتسعت سيطرته عليها، وازداد اغتناء بكنوزها، ووسائل إنتاجها، تحققت بذلك إمكانية أكبر فأكبر للاستغلال على خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان‏ {كَلَّا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[العلق: 6، 7]. هذه الآية الكريمة تشير إلى هذه العلاقة، إلى أن الإنسانية بقدر ما تتمكن وتستقطب الطبيعة وتتوصل إلى وسائل انتاج أقوى وأدوات توليد أوسع، تكون انعكاسات ذلك على حقل علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، انعكاساته على شكل إمكانيات وإغراءات وفتح الشهية للأقوياء لكي يستثمروا أداة الإنتاج في سبيل استغلال الضعفاء.


تصوروا مجتمعاً يعيش على الصيد باليد والحجارة والهراوة، مثل هذا المجتمع، لا يتمكن من أن يمارس بذور الأقوياء، بذور الوحوش فيه لا يتمكنون على الأغلب من أن يمارسوا أدواراً خطيرة من الاستغلال الاجتماعي، لأن مستوى الإنتاج محدود، والقدرة محدودة، وكل إنسان لا يكسب عادة بعرق جبينه إلا قوت يومه، فلا توجد إمكانية الاستغلال بشكله الاجتماعي الواسع، وإن كانت توجد ألوان أخرى من الاستغلال الفردي، ولكن لاحظوا من الجانب الآخر مجتمعاً متطوّراً استطاع الإنسان فيه أن يصنع الآلة البخارية والآلة الكهربائية، استطاع فيه أن يخضع الطبيعة لإرادته، في مثل هذا المجتمع، سوف تكون الآلة البخارية والآلة الكهربائية المعقدة المتطوّرة الصنع، أداة إمكانية على ساحة علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، تشكّل، بحسب مصطلح الفلاسفة، ما بالقوة للاستغلال، ويبقى أن يخرج ما بالقوة إلى ما بالفعل، وذلك على عهدة الإنسان ودوره التاريخي على الساحة الاجتماعية. فالإنسان هو الذي يصنع الاستغلال، هو الذي يفرز النظام الرأسمالي، وهذا هو الفرق بيننا وبين المادية التاريخية، المادية التاريخية اعتقدت أنّ الآلة هي التي تصنع الاستغلال، هي التي تصنع النظام المتناسب لها، ولكنّنا نحن لا نرى أن دور الآلة هو دور الصانع، وإنما دور الآلة هو دور الإمكانية، دور توفير الفرصة والقابلية، وأمّا الصانع الذي يتصرف إيجاباً وسلباً، أمانة وخيانة، صموداً وانهياراً، إنما هو الإنسان وفقاً لمحتواه الداخلي، لمثله الأعلى، لمدى التحامه مع هذا المثل الأعلى، هذه هي العلاقة الأولى. 
وأما العلاقة القرآنية الثانية التي تمثّل وتجسّد تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة، فمؤدّى هذه العلاقة القرآنية، هو أنه كلما جسدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان العدالة، وكلما استطاعت أن تستوعب قيم هذه العدالة، وأن تبتعد عن أي لون من ألوان الظلم والاستغلال من الإنسان لأخيه الإنسان، كلما وقع ذلك، ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة، وتفتحت الطبيعة عن كنوزها، وأعطت المخبوء من ثرواتها، ونزلت البركات من السماء، وتفجرت الأرض بالنعمة والرخاء.

 

هذه العلاقة القرآنية هي العلاقة التي شرحها القرآن الكريم في نصوص عديدة، قال سبحانه وتعالى:‏ {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}[الجنّ: 16] {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}[المائدة: 66]، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]، هذه العلاقة مؤداها أن علاقات الإنسان مع الطبيعة تتناسب عكسياً مع ازدهار العدالة في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، فكلما ازدهرت العدالة في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان أكثر فأكثر، ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة، وكلما انحسرت العدالة عن الخطّ الأول، انحسر الازدهار عن الخط الثاني، أي أن مجتمع العدل هو الذي يضع الازدهار في علاقات الإنسان مع الطبيعة، ومجتمع الظلم هو الذي يؤدّي إلى انحسار تلك العلاقات، علاقات الإنسان مع الطبيعة، وهذه العلاقة ليست ذات محتوى غيبيّ فقط. نعم، نحن نؤمن أيضاً بمحتواها الغيبي، ولكن إضافةً إلى محتواها الغيبي الربّاني، هي تشكّل سنَّة من سنن‏ التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم، وذلك لأن مجتمع الظلم، مجتمع الفراعنة على مرّ التاريخ، مجتمع ممزق، مشتت، الفرعونية على مرّ التاريخ حينما تتحكّم في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، تستهدف تمزيق طاقات المجتمع، وتشتيت فئاته، وبعثرة إمكانياته... وهذا هو الفرق بين المثل العليا المنخفضة الفرعونية، وبين المثل الأعلى الحقّ، مثل التوحيد سبحانه وتعالى، فإن المثل الأعلى يوحد الجامعة البشرية، ويلغي كل الفوارق والحدود، باعتبار شمولية هذا المثل الأعلى، فهو يستوعب كل الحدود وكل الفوارق، يهضم كل الاختلافات، يصهر البشرية كلها في وحدة متكافئة، لا يوجد ما يميز بعضها عن بعض، لا من دم ولا من جنس ولا من قومية ولا من حدود جغرافية أو طبقية.


المثل الأعلى بشموليته يوحّد البشرية، ولكن المثل العليا المنخفضة تجزئ البشرية، وتشتّت البشرية، انظروا إلى المثل الأعلى كيف يقول:‏ {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 92]، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[المؤمنون: 52]، هذا هو منطق شموليّة المثل الأعلى التي لا تعترف بحدّ وبحاجز في داخل هذه الأسرة البشرية. انظروا، استمعوا إلى المثل المنخفض، إلى مجتمع الظلم وآلهة مجتمع الظلم، كيف يقولون، أو كيف يتحدّث عنهم القرآن الكريم‏: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}[القصص: 4]، فرعون المثل الأعلى المنخفض، الفرعونية على مرّ التاريخ التي تبني العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان على أساس الظلم والاستغلال، الفرعونية تجزئ المجتمع، تبعثر إمكانيات المجتمع، وطاقات المجتمع، ومن هنا، تهدر ما في الإنسان من قدرة على الإبداع والنموّ الطبيعي على ساحة علاقات الإنسان مع الطبيعة، وعمليّة التجزئة الفرعونية للمجتمع تقسّم المجتمع إلى فصائل وجماعات: الجماعة الأولى ظالمون مستضعِفون، هذه الجماعة الأولى في التقسيم الفرعوني هم الظالمون المستضعِفون، في الوقت نفسه، الظالمون الثانويون، أو بحسب تعبير أئمتنا (عليهم الصلاة والسلام) «أعوان الظلمة»، هؤلاء الظالمون المستضعفون يشكّلون حماية لفرعون وللفرعونية، وسنداً في المجتمع لبقاء الفرعونية واستمرار وجودها وإطارها. قال الله سبحانه وتعإلى ‏{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}[سبأ: 31].
 

هنا القرآن يتحدث عن الظالمين، يقول:‏ {إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ‏}، لكن الظالمين صنفهم إلى قسمين :إلى من استضعف منهم ومن استكبر منهم. إذاً فالظالمون، وفيهم مستكبرون، وهم الذين يمثلون الفرعونية في المجتمع، وفيهم مستضعفون.
فالطائفة الأولى إذاً في التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم هم الظالمون المستضعفون، هؤلاء الذين يحشرون يوم القيامة في زمرة الظالمين، ثم يقولون للمستكبرين من الظّالمين لولا أنتم لكنا مؤمنين.

هذه هي الطائفة الأولى التي تشكّل الحماية والسند للفرعونية الطائفة الثانية في عملية التمزقة الفرعونية لمجتمع‏ الظلم، ظالمون يشكّلون حاشية، ومتملّقون، أولئك الذين قد لا يمارسون ظلماً بأيديهم بالفعل، ولكنهم دائماً وأبداً على مستوى نزوات فرعون وشهوات فرعون ورغبات فرعون، يسبقونه بالقول من أجل أن يصححوا مسلكه ومسيرته. قال الله سبحانه وتعالى:‏ {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[الأعراف: 127]، شكلوا دور الإثارة لفرعون، هؤلاء كانوا يعرفون أنهم بهذا الكلام يضربون على الوتر الحساس في قلب فرعون، وأن فرعون كان بحاجة إلى كلام من هذا القبيل، فتسابقوا إلى هذا الكلام لكي يجعلوا فرعون يعبّر عمّا في نفسه، ويتخذ الموقف المنسجم مع مشاعره وعواطفه وفرعونيّته.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد