علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الصدر
عن الكاتب :
ولد في مدينة الكاظمية المقدسة في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1353 هـ، تعلم القراءة والكتابة وتلقى جانباً من الدراسة في مدارس منتدى النشر الابتدائية، في مدينة الكاظمية المقدسة وهو صغير السن وكان موضع إعجاب الأساتذة والطلاب لشدة ذكائه ونبوغه المبكر، ولهذا درس أكثر كتب السطوح العالية دون أستاذ.rnبدأ بدراسة المنطق وهو في سن الحادية عشرة من عمره، وفي نفس الفترة كتب رسالة في المنطق، وكانت له بعض الإشكالات على الكتب المنطقية. بداية الثانية عشرة من عمره بدأ بدراسة كتاب معالم الأصول عند أخيه السيد إسماعيل الصدر، سنة 1365 هـ هاجر إلى النجف الاشرف، لإكمال دراسته، وتتلمذ عند آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين وآية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي. أنهى دراسته الفقهية عام 1379 هـ والأصولية عام 1378 هـ عند آية الله السيد الخوئي.rnمن مؤلفاته: فدك في التاريخ، دروس في علم الأصول، نشأة التشيع والشيعة، فلسفتنا، اقتصادنا وغير ذلك.

التأثير المتبادل بين علاقة الإنسان مع الطبيعة وأخيه (2)

 

السيّد محمد باقر الصدر
الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم، أولئك الذين عبَّر عنهم الامام علي (عليه الصلاة والسلام) «بالهمج الرعاع»، جماعة هم مجرّد آلات مستسلمة للظلم، لا تحسّ بالظلم، لا تدرك أنها مظلومة، ولا تدرك أن في المجتمع ظلماً، هي آلات تتحرك تحركاً آلياً، تحركاً يشبه التحرك الميكانيكي للآلة، تحرك التبعية والطاعة دون تدبر، دون وعي، سلب فرعون منها تدبرها، عقلها، وعيها، ربط يدها به لا عقلها به، ولهذا فهي تحرك يدها تحريكاً آلياً وتستسلم للأوامر الفرعونية دون أن تناقشها، حتى دون أن تتدبرها، حتى بينها وبين نفسها لا بينها وبين الآخرين، هذه الفئة طبعاً تفقد كلّ قدرة على الإبداع البشري في مجال التعامل مع الطبيعة، تفقد كلّ قابليات النموّ، لأنها تحولت إلى آلات، إذا وجد أن هناك إبداعاً في هذه الفئة، إنما هو إبداع من يحرك هذه الآلات، إبداع تلك الفرعونية التي تحرك هذه الآلات، وأمّا هذه الفئة، فلم تعد أناساً وبشراً يفكرون ويتدبرون لكي يستطيعوا أن يحققوا لوناً من الإبداع على هذه الساحة. قال الله سبحانه وتعالى:‏ {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}[الأحزاب: 67]، لا يوجد في كلام هؤلاء ما يشعر بأنهم كانوا يحسون بالظلم، أو كانوا يحسون بأنهم مظلومون، وإنما هو مجرد طاعة، مجرد تبعيّة، هؤلاء هم القسم الثالث في تقسيم مولانا أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام‏)، حينما قال:‏ «الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق».


وهذا القسم الثالث يشكّل مشكلة بالنّسبة إلى أيّ مجتمع صالح، وبقدر ما يمكن للمجتمع الصالح أن يستأصل هذا القسم الثالث بتحويله إلى القسم الثاني، بتحويله إلى متعلم على سبيل النجاة على حدّ تعبير الإمام، إلى تابع بإحسان على حدّ تعبير القرآن، إلى مقلّد بوعي وتبصر على حدّ تعبير الفقه، بقدر ما يمكن تحويل هذا القسم الثالث إلى القسم الثاني، يمكن للمجتمع الصالح أن يستمرّ وأن يمتدّ. ولهذا، كان من ضرورات المجتمع الصالح في نظر الإمام (عليه الصلاة والسلام)، هو شجب هذا القسم الثالث، هؤلاء همج، رعاع، ينعقون مع كلّ ناعق، ليس لهم عقل مستقل، وإرادة مستقلة... 
مفهوم الموت لدى القرآن للمجتمعات وللأقوام وللأمم، الموت الطبيعيّ للمجتمع لا الموت المخروم، المجتمع له موتان: موت طبيعي وموت مخروم، الموت الطبيعي للمجتمع يكون عن طريق توسع هذه الفئة الثالثة وازديادها نوعياً وعددياً في المجتمع، إلى أن تحلّ الكارثة فينهار المجتمع. هذه الطائفة الثّالثة في عملية التجزئة الفرعونيّة.


أمّا الطائفة الرابعة: فهم أولئك الذين يستنكرون الظلم في أنفسهم، أولئك الذين لم يفقدوا لبَّهم أمام فرعون والفرعونية، فهم يستنكرون الظلم، لكنّهم يهادنونه ويسكتون عنه، فيعيشون حالة التوتر والقلق في أنفسهم. وهذه الحالة؛ حالة التوتر والقلق، أبعد ما تكون عن حالة تسمح للإنسان بالإبداع والتجديد والنمو على ساحة علاقات الإنسان مع الطبيعة. هؤلاء يسمّيهم القرآن الكريم‏ {ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ}‏، قال الله سبحانه وتعالى:‏ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}[النساء: 97]. هؤلاء لم يظلموا الآخرين، ليسوا من الظالمين المستضعِفين كالطائفة الأولى، وليسوا من الحاشية المتملّقين، وليسوا أيضاً من الهمج الرعاع الذين فقدوا لبهم، بل بالعكس، هم يشعرون بأنهم مستضعَفون. {قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ‏}، هؤلاء لم يفقدوا لبهم، يدركون واقعهم، ولكنهم كانوا عملياً مهادنين، ولهذا عبر عنهم القرآن بأنهم ظلموا أنفسهم. هذه الطائفة، هل يترقب منها أن تساعد بإبداع حقيقي في مجال علاقات الإنسان مع الطبيعة؟ طبعاً كلا.


الطائفة الخامسة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هي: الطائفة التي تتهرب من مسرح الحياة، تبتعد عن المسرح وتتهرّب منه وتترهب. وهذه الرهبانية موجودة في‏ كل مجتمعات الظلم على مرّ التاريخ، وهي تتخذ صيغتين :
الأولى صيغة جادة، رهبانية جادة تريد اأن تفر بنفسها لكي لا تتلوّث بأوحال المجتمع، هذه الرهبانية الجادة التي عبَّر عنها القرآن الكريم بقوله‏: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا}[الحديد: 27] هذه الرهبانية يشجبها الإسلام، لأنها موقف سلبي تجاه مسؤولية خلافة الإنسان على الأرض. وهناك صيغة مفتعلة للرّهبانيّة، يترهب ويلبس مسوح الرهبان، ولكنه ليس راهباً في أعماق نفسه، وإنما يريد بذلك أن يخدر الناس ويشغلهم عن فرعون وظلم فرعون ويسطو عليهم نفسياً وروحيّاً.
وهذا هو الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله:‏ {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ}[التوبة: 34].


الجماعة السادسة والأخيرة في عملية التجزئة الفرعونيّة للمجتمع هم: المستضعَفون. الفرعونية حينما جزأت المجتمع إلى طوائف، فرعون حينما اتخذ من قومه شيعاً، استضعف طائفة معينة منهم خصّها بالاستضعاف والإذلال وهدر الكرامة، لأنها كانت هي الطائفة التي يتوسم أن تشكل إطاراً للتحرك ضده، ولهذا استضعفها بالذات. {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}[البقرة: 49]، هذه هي الطائفة السادسة. وقد علّمنا القرآن الكريم ضمن سنة من سنن التاريخ أيضاً، أن موقع أي طائفة في التركيب الفرعوني لمجتمع الظلم، يتناسب عكساً مع موقعه بعد انحسار الظلم، وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى:‏ {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[القصص: 5]. تلك الطائفة السادسة التي كانت هي منحدر التركيب، يريد الله سبحانه وتعالى أن يجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، وهذه علاقة أخرى وسنة تاريخية أخرى يأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.


إذاً، فإلى هنا استخلصنا هذه الحقيقة، وهي أن المجتمع يتناسب مدى الظلم فيه تناسباً عكسياً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة، ويتناسب مدى العدل فيه تناسباً طردياً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة.
مجتمع الفرعونية المجزّأ المشتت مهدور القابليات والطاقات والإمكانيات، ومن هنا، تحبس السماء قطرها، وتمنع الأرض بركاتها. وأما مجتمع العدل، فهو على العكس تماماً، هو مجتمع تتوحد فيه كلّ القابليات، وتتساوى فيه كل الفرص والإمكانيات، هذا المجتمع الذي تحدثنا الروايات عنه، تحدثنا عنه من خلال ظهور الإمام المهدي (عليه الصلاة والسلام)، تحدثنا عما تحتفل به الأرض والسماء في ظلّ الامام المهدي (عليه السلام) من بركات وخيرات، وليس ذلك إلا لأن العدالة دائماً وأبداً تتناسب طرداً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة، هذه العلاقة الثانية بين الخطّين.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد