قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
عن الكاتب :
فيلسوف، مفسر وعالم دين إسلامي و مرجع شيعي، مؤسس مؤسسة الإسراء للبحوث في في مدينة قم الإيرانية

الولاية والشورى في المنظور القرآني (3)

 

الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
إن السياسة الإسلامية تعتقد أن الأمة أمانة، وأن الإمام أمينها. وقد اتضح أن النظام الإسلامي يستقر على ركنين أحدهما الأمة الواعية، وثانيهما الإمام العادل الحق. فاللازم هنا التصريح بأن مقتضى الكرامة السائسة هو أن تكون الأمة بقضها وقضيضها، ونفسها ونفيسها، أمانة إلهية، وأن يكون الإمام أمين هذه الأمة لا يخونها أصلاً، بل يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد، ويشاورهم فإذا عزم فليتوكل على الله ويبين لهم ما جرى لهم وعليهم، ويحفظ كيانهم ويطرد عنهم الفقر الفكري والمالي، ويذب عن حريمهم، ويسد ثغورهم، وما إلى ذلك من شؤون القيادة كل ذلك بأيديهم وأنفسهم ونفائسهم وأبدانهم وأموالهم. لأن ارتباط الأمة والإمام ارتباط الأعضاء والقلب كما استفاد هشام من جعفر بن محمد الصادق عليه السلام واحتج به على عمرو بن عبيد المنكر للإمامة المعهودة والقيادة الخاصة - والدليل على كون الأمة أمانة بيد الإمام ما قاله موسى عليه السلام لقوم فرعون: ﴿أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾(الدخان: 18).
يعني يجب عليكم أن تؤدوا هذه الأمة (التي لا رب لها إلا الله) إليّ لأني رسول أمين في أصل الرسالة والإبلاغ، وأمين في حفظ هذه الأمانة الإلهية: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾(الأعراف: 104 - 105).
يعني يلزم أن تكون أمة بني إسرائيل تحت تدبير موسى عليه السلام وتربيته عليه السلام ويكون هو عليه السلام كفيلاً لهم وحافظاً إياهم حسبما أشير إليه، وكما أن الإمامة عهد إلهي لا ينال الظالمين ولا يمس كرامته الظالمون، كذلك الأمة أمانة إلهية لا تؤدي إلا إلى أهلها وهو الإمام العدل الحق. وكما أن النصيحة لأئمة المسلمين من التكاليف المهمة التي لا يغل عليها قلب امرئ مسلم، كذلك خيانة الأمة أعظم الخيانة، وغش الأئمة أفظع الغش، كما قال علي بن أبي طالب عليه السلام :
"ومن استهان بالأمان، ورتع في الخيانة، ولم ينزه نفسه ودينه عنها فقد أحل بنفسه الذل والخزي في الدنيا، وهو في الآخرة أذل وأخزى، وإن أعظم الخيانة، خيانة الأمة، وأفظع الغش غش الأئمة"(نهج البلاغة كتاب: 26).
وحيث أن الأمة بدمها وعرضها ومالها أمانة بيد الإمام فلو خان المنصوب من قبله في شيء من ذلك فقد ارتطم بأعظم الخيانة بالنسبة إلى الأمة وارتكب أفظع الغش بالنسبة إلى الإمام، فلو رضي الإمام بذلك فقد ابتلي بذلك أيضاً حيث أنه إنما يجمع القوم الرضا والسخط. مضافاً إلى أن العامل منصوب من قبل الإمام ويُعَدّ فعله فعلاً له، وإطاعة مثل هذا الخائن من فواقر الظهر كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام : "أربعة من قواصم الظهر: أمام يعصي الله عزّ وجلّ ويطاع أمره... ".
وذلك لأن الخيانة والغلول وإن كانا من الكبائر الموبقة لكل أحد إلا أنهما للإمام الوالي لأمر الأمة أشد وأهدى وأمّر ولذا قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾(آل عمران: 161).


والإمام الخائن فتنة لمن افتتن به، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمّال خطايا غيره، رهن بخطيئته لأنه من الذين يحملون أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم. فهو مع كونه رهناً بخطيئة لأن كل نفس بما كسبت رهينة، كذلك حمّا خطايا غيره لأنه أغواهم وأضلّهم، ومن سن سُنَّة سيئة فعليه وزر من عمل بها، مع أن عامل تلك السيئة أيضاً رهن لها، فعلى السان وزران، وعلى العامل وزر واحد.
والحاصل أن الأمة بجميع شؤونها أمانة إلهية بيد الإمام، ولذا يكون الإمام مأموراً بمعرفتها وحفظها وإصلاحها كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك، حيث قال الله تعالى له: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾(آل عمران: 154).

لأن مرونة الإمام وانعطافه إلى الأمة وحنينه نحوها يوجب انجذابها إليه ويمنع انفضاضها وتفرقها عنه بل لا تهجر هذها لأمة أمامها في الضرّاء كما تكون معه في السرّاء، ولا تحيد عنه في العسر كما تكون معه في اليسر، ولا تنفض من حوله حال الغلاء والمجاعة والمخمصة كما تطوف حوله حال الرخص والخصب، رغماً لأنف من زعم أن الفقر الاقتصادي والمخمصة ونحو ذلك يوجب انفضاض الأمة من حول إمامها، فلذا قال الله تعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾ (المنافقون: 7).
والسر في ذلك هو الأصل الذي تدور معه السياسة الإسلامية، وهو أصالة الكرامة التي توجب تحمل أعباء الفقر الاقتصادي، وتمنع عن تحمل التحقير والتوهين وخشونة الزعيم وغلظته فالذي يجمع شتات الأمة هو رأفة الإمام كما قال: ﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(الحجر: 88).
لأن الإمام وإن كان منهياً عن الالتفات إلى من جمع مالاً وعده، وألهاه التكاثر، ولكنه مأمور بخفض الجناح لمن اتبعه من المؤمنين. ولذا وصف الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالرأفة والرحمة حيث قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة: 128).
ومن آثار رأفته المباركة ورحمته الكريمة هو تأسفه الشديد على حرمان بعض الأمة من قبول ما جاء به كما قال الله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾(الكهف: 6).
قال الله تعالى مسلياً لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾(فاطر: 8).
وحيث أن مقتضى نظام الإمامة والأمة أن يكون الإمام رؤوفاً بأمته ورحيماً بها فقد أوصى إمام الأمة علي بن أبي طالب عليه السلام مالك الأشتر حين ولاه مصر بذلك وقال:
"... واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً، تغتنم لكلهم فأنهم صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق...".
ومن فوائد رأفة الإمام الأمين بأمته التي هي أمانة عنده هو أن الأمة لا تنفضّ من حوله في الشدائد بل في مطلق ما يلزم حضورها واشتراكها كما قال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْء﴾ (النور: 64).


حيث وصف الأمة المؤمنة حقاً بالاجتماع مع إمامها وعدم ذهابها إلى حوائجها الشخصية إلا بعد الإذن، ومن ذلك حديث حنظلة غسيل الملائكة المعروف بين أصحاب السير. والسر في ذلك هو الفرق بين الناس وبين الأمة، لأن الناس لا جامع لشتاتهم ولا عامل لوحدتهم، دون الأمة فإن لأعضائها هدفاً واحداً يأتمون من أجله بإمامهم حتى يصلوا إليه، وبما أنهم يؤمون مقصداً واحداً لذلك قيل لهم - الأمة - فإذا كان إمام الأمة رؤوفاً بها فهي أيضاً تحن إليه وتشتاقه لأن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها كما أفاده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولعله لذلك كله صار سيد المرسلين حبيب الله يحب الله ويحبه الله وهو من أفضل... مصاديق قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (المائدة: 54).
وكان اتباعه صلى الله عليه وآله وسلم هو طي سبيل المحبة وموجباً لأن تصير الأمة التي تؤمه وتأتم به صلى الله عليه وآله وسلم محبوبة لله تعالى كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(آل عمران: 31).
فعلى أئمة المسلمين أن يتأسوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان أسوة المحبة وقدوة الرأفة وممثل الرحم بالنسبة لأي موجود كان في سبيل الله، كما نقل مالك في الموطأ باب جامع ما جاء في أمر المدينة ص (644) عن هشام بن عروة عن أبيه (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلع له أحد فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه).


لأنه صلى الله عليه وآله وسلم ممن يشاهد كل موجود بما أنه آية ومُسَبّح لله سبحانه ويفقه تسبيحه فإذا بلغ الإمام حد الأمانة والرأفة والرحمة والمحبة للأمة يصير ممن يستجاب دعاؤه كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ولمكان الاهتمام برأفة الإمام بالأمة ورد ما نقله مالك في الموطأ باب ما جاء في حسن الخلق أن معاذ بن جبل قال: "آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: أحسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل"(ص 650). نعم أن صاحب الخلق العظيم لا يوصى إلا بحسن الخلق.
والحاصل أنه لما كان الحق لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له، لذا يجب على كل واحد من الأمة والإمام العمل بما يجب عليه للغير من حقوق، كما له أن يطالب الغير بأداء ما عليه من الواجبات وهذا من أعظم ما افترضه الله سبحانه، كما قال علي بن أبي طالب عليه السلام:
"وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي. فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة وظهرت معالم الجور، وكثر الأدغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد. فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه" (نهج البلاغة: خطبة 216).
إلى آخر ما أفاده أمير البيان.
 ولقد أغنانا بيان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن بيان وحق له عليه السلام أن يقول:
"إنا لأمراء الكلام، وفينا تنشبت عروقه، وعلينا تهدلت غصونه"، ولا وقع للمصباح عند الصباح.
نعم إن الذي كان يحب الله ورسوله، وكان الله يحبه ويحبه الرسول، لا يوصي الوالي والرعية إلا بما يورث المحبة الإلهية وهو القيام بالقسط في الحقوق المتقابلة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد