قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد هادي معرفة
عن الكاتب :
ولد عام 1348هـ بمدينة كربلاء المقدّسة، بعد إتمامه دراسته للمرحلة الابتدائية دخل الحوزة العلمية بمدينة كربلاء، فدرس فيها المقدّمات والسطوح. وعلم الأدب والمنطق والعلوم الفلكية والرياضية على بعض أساتذة الحوزة العلمية، عام 1380هـ هاجر إلى مدينة النجف الأشرف لإتمام دراسته الحوزوية فحضر عند بعض كبار علمائها كالسيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي، ثم سافر إلى مدينة قم المقدسة والتحق بالحوزة العلمية هناك وحضر درس الميرزا هاشم الآملي. من مؤلفاته: التمهيد في علوم القرآن، التفسير والمفسِّرون، صيانة القرآن من التحريف، حقوق المرأة في الإسلام.. توفّي في اليوم التاسع والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام من عام 1427هـ بمدينة قم المقدّسة، ودفن بجوار مرقد السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام

الهرمنيوطيقا ومعضلة فهم النص (4)

 

الشيخ محمد هادي معرفة
معضلة قراءة النصّ
هناك معضلة في قراءة النصوص، ولا سيّما المنتمية إلى وحي السماء. وقد حسب البعض أن لا مفهوم لها ذاتيًّا، وإنّما هو حسبما يرتئيه المفسّر من رأي يحمّله على النصّ تحميلًا، ومن ثمّ جاء الاختلاف في قراءة النصّ الديني بالخصوص؛ نظراً لاختلاف عقائد وآراء المنتمين إلى تلك الأديان، فكلّ يفسّره حسبما يرتضيه من الرأي المختار عنده، ويرفض قراءة الآخرين.
وما هذا الاختلاف بين أرباب النحل والمذاهب إلّا نتيجة اختلافهم في فهم النصّ، كلّ حسبما بناه من أسس ومباني لفهم الشريعة والدين.. فللمعتزلي فهمه الخاصّ عن القرآن الكريم، وللأشعري فهمه حسبما يرتئيه، كلّ يضرب على وتره، ويحاكي شاكلته التي هو بناها لنفسه.


وفي ذلك يقول بعضهم: «إنّ النظرة الحديثة- في أوساط غير مؤمنة- تعتبر من الألفاظ والكلمات كمرايا يتراءى فيها ذهنيّات المخاطبين بها، فيرون فيها مفروضاتهم هم، والتي حاكوها هم لأنفسهم من ذي قبل.. فيفسّرونها حسب تصوّراتهم ذاتيّاً، كمن يرى نفسه في المرآة لا شيء سواه» [راجع مقال الدكتور أحمد الواعظي مجلّة (حوزة ودانشگاه) الفصليّة، عدد (39) السنة العاشرة، صيف 1384 هـ ش].
وعليه، فالألفاظ والعبارات هي بدورها خلو من أيّ معنى، ولكنّها جاهزة لاستلهام ما يرد عليها من معاني!
وبمثل هذه السفسطة الفاضحة لهج بعض من شغفتهم فلسفة بني الأصفر، زاعمين: أن ليست العبائر بالتي هي حبلى لتلد، وإنّما هي غرثى تهفو إلى ما يغذّيها من معاني، ليكون اللفظ فارغاً يحتمل ما حمّله عليه المفسّرون! وكان المفسّر هو الذي يقوم بإيحاء المعاني وشحنها في النصّ حسبما ما راقه من أهداف وأغراض [هكذا يقول الدكتور عبد الكريم سروش: «عبارات نه آبستن، كه گرسنه معانى‏اند»، ويقول: «متن حقيقتا أمر مبهمى است وچندين معنا برمى‏تابد». انظر قبض وبسط تئوريك شريعت: 287- 288 و394 وپلوراليزم دينى- كيان ش 40: 17].
قلت: ولعمر الحقّ إنّهم في سكرتهم يعمهون، كيف يتصوّرون من لافظ هو ناسج الكلام، لا قصد له وراء لفظه ونسجه سوى الإدلاء بقوالب لفظيّة فارغة، ليشحنها إيحاءات مستوردة؟!
وقد عرفت من كلام شليرماخر- الممهّد لسبيل الهرمنيوطيقا الغربيّ- تأكيده على فرض العلاقة قائمة بين المؤلّف والنصّ، ليكون النصّ معبراً إلى ما يدور بخلد المؤلّف ذاته.
إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما *** جعل الكلام على الفؤاد دليلاً
وأن لا دور للمفسّر سوى دور كاشف لمفهوم النصّ عن طريق فهم المؤلّف ذاته.
وأين هذا من القول بعزل المؤلّف عن أيّ علاقة بينه وبين مفهوم النصّ، وإيكال الأمر إلى إيحاءات المفسّرين؟!
إن هذا إلّا كلام فارغ، لا محصّل له، ولا معنى معقولاً.


الحاجة إلى التفسير
نعم، كانت الحاجة إلى التفسير من قبل: أنّ الوحي القرآني لمّا كان كتاب هداية وتشريع، فربّما اقتطف من قصص الماضين مواضع العبر منها، كما اقتصر على بيان أصول التشريعات، وأحال التفصيل إلى بيان الرسول، وغير ذلك من أسباب أوجبت إجمالاً أو إبهاماً في طرف من آي الذكر الحكيم، الأمر الذي يقوم بتبيينه وتفصيله المفسّر المضطلع الخبير. وأوّل المفسّرين هو النبيّ الكريم (صلّى اللّه عليه وآله)، حيث قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل 16: 44].
قال الإمام الصادق (عليه السّلام) في حديثه مع أبي بصير، حيث سأله عن ترك التصريح باسم أولي الأمر الذين أمر اللّه بطاعتهم، قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نزلت عليه الصلاة، ولم يسمّ اللّه لهم ثلاثاً أو أربعاً، حتّى كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله هو الذي فسّر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة، ولم يسمّ لهم من كلّ أربعين درهماً درهم، حتّى كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله هو الذي فسّر ذلك لهم، ونزل الحجّ فلم يقل لهم: طوفوا أسبوعاً، حتّى كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله هو الذي فسّر ذلك لهم.. وهكذا قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله هو الذي بيّن وأوضح من صفات وسمات أولياء الأمور..» [الكافي 1: 286- 287 حديث 1، والآية: 59 من سورة النساء 4]
 

الكهانة في مجال التأويل
ولعلّ ما ذهب إليه القائل بخلوّ العبائر عن المعاني سوى ما أدلى به المفسّرون، لعلّه ناظر إلى ما تداوله أهل الدمدمة والزمزمة من أصحاب الكهنوت، كانوا يدلون بعبارات ذوات إبهام وإيهام، فليذهب المستمع في تفسيرها وتأويلها حيث شاء أو يرتاح وفق مشتهاه!
والكهانة: عرافة جاهليّة كانت دارجة في أوساط قبائليّة قاحلة، زعموا منها استخدام الجنّ لمعرفة الأمور المغيّبة، فكان إذا ناب أحدهم أمر يريد معرفة دخيلته أو مستقبله منه، ذهب إلى الكاهن أو العرّيف ليخبره بما يهمّه منه. وكان لكلّ كاهن صاحب من الجنّ- فيما زعموا- يحضر إليه فيخبره بما يريد!

والكهانة والعرافة، لفظان لمفهوم واحد. وفرّق بعضهم بينهما بأنّ الكهانة علاج ما سيحدث من أمر خطير، والعرافة علاج حادث راهن. وعلى كلّ حال فالمراد بهما التنبّؤ واستطلاع الغيب، وكانت القبائل المتوحّشة تعتقد في الكهّان القدرة على كلّ شيء، ويحيطون بهم هالة من القداسة الدينيّة، باعتبارهم المراجع في مهامّ الأمور سواء المحسوس منها أم المغيّبات.
فكانوا يستشيرونهم في حوائجهم، ويتقاضون إليهم في خصوماتهم، ويستطبّونهم في علاج أمراضهم، ويستفشونهم فيما أشكل عليهم من مخارج الأمور، كما كانوا يستفسرون منهم عن رؤاهم، ويستنبئونهم عن المستقبل وما سيؤول إليه أمرهم في منطلق الزمان.
وبالجملة، فالكهّان عندهم هم أهل العلم والفلسفة، والطبّ والقضاء والدين، شأن جميع الطبقات من الأمم القديمة، في كلّ أرجاء العالم القديم.
كانوا يعتقدون في الكهنة العلم بكلّ شيء، وأنّ ذلك يأتيهم بواسطة الأرواح، إن خيّرة أو شرّيرة، وكان عبدة الأصنام- وهي عادة متفشّية عند القبائل المتوحّشة- يعتقدون حلول الأرواح في الأصنام وأنّها تبيح أسرار الطبيعة للكهّان والسّدنة، فتقول: إنّ الأصنام تدخلها الجنّ وتخاطب الكهّان، وأنّ الكاهن يأتيه الجنّي بخبر السماء، وربّما عبّروا عنه بالهاتف (عند العرب)، فكلّ ما يصنعه الكاهن إنّما مصدره الغيب. فإذا استطبّه مريض من ألم أو صداع عالجه بالرقى، وإذا استشاره في معضلة خطّ له في الرمل أو نفث في العقد، وإذا تحاكمه متخاصمان رمى لهما بالقداح، وإذا استطلعه شخص أخذ قمقماً جعله بين يديه ونفث فيه، ونحو ذلك من الحركات الوهميّة، وإذا استفسره من رؤيا تمتم وتظاهر باستطلاع الغيب.
وعمدة الكلام: أنّ الكهّان كانت لهم لغة خاصّة، تمتاز بتسجيع وترصيع وترصيف خاصّ، يعرف بسجع الكهّان، فيه من التعقيد والغموض الشيء الأوفر، وهو بيت القصيد.
ولعلّهم كانوا يتوخّون ذلك للتمويه على الناس بعبارات تحتمل غير وجه، كما يفعل بعض مشايخ التنجيم في هذه الأيّام، حتّى إذا لم يصدق تكهّنهم جعلوا السبب قصور الناس في فهم النصّ؟!
ومن أمثلة سجع الكهّان ما يروونه عن «طريفة» كاهنة اليمن، حين خاف أهل مأرب سيل العرم، وعليهم مزيقياء عمرو بن عامر، فإنّها قالت لهم: «لا تؤمّوا مكة حتّى أقول، وما علّمني ما أقول إلّا الحكم المحكّم، ربّ جميع الأمم، من عرب وعجم». قالوا لها: ما شأنك يا طريفة؟! قالت: «خذوا البعير الشذقم، فخضّبوه بالدم، تكن لكم أرض جرهم، جيران بيته المحرّم» [الأغاني 13: 110، وانظر تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان 1: 210- 212].
ومن أشهر كهّان العرب سطيح الغسّاني أكهن الناس، فقد كان أنذر لسيل العرم.


قيل من كهانته: تعبيره لرؤيا رآها كسرى فهالته، وكتب إلى عامله بالحيرة أن يوجّه إليه رجلاً من علمائهم من أصحاب العلم بالحدثان، فبعث إليه عبد مسيح بن نفيلة الغسّاني فأخبره كسرى بالخبر، فعجز عن الإجابة، وعرض عليه أن يوجّهه إلى خاله سطيح بالشام فجهّزه، وأتاه وكان محتضراً، فأخبره برؤيا الملك كسرى، فرفع سطيح رأسه وقال: أيا عبد المسيح! على جمل مشيح (أي: سريع) أقبل على طيح، وقد وافى على الضريح (أي: القبر، كناية عن قرب احتضاره). بعثك ملك ساسان، لارتجاج الأيوان، وخمود النيران، ورؤيا المؤبذان: رأى إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عراباً، حتّى اقتحمت الواد وانتشرت في البلاد.
أيا عبد المسيح! إذا ظهرت التلاوة (تلاوة نصّ الوحي؛ أي: القرآن) وظهر صاحب‏ الهراوة (العصا الضخمة) وغاضت بحيرة ساوة (!) وخمدت نيران آوه (!).. فليست بابل للفرس مقاماً، ولا الشام لسطيح شاماً، يملك منهم ملوك وملكات، بعدد ما سقط من الشّرفات، وكل ما هو آت آت.. [انظر سيرة الحلبي 1: 75، ودائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي 8: 226]
إلى أمثالها من ترّهات، ولعلّها من المصطنعات، لكنّها هزيلات!!
وبعد، فمن المحتمل القريب أنّ القول بفراغ النصّ عن المعنى، وأن لا إيحاء له سوى ما حمّله عليه السامع ممّا ارتأى، ناظر إلى هذا النمط من الكهانة الجاهليّة، وقد اكتنفتها هالة من القداسة العمياء.
فمن الجفاء العارم مقايسة نصوص الوحي بسفاسف حاكتها أبالسة الجنّ والإنس، هي بالهزء أشبه منه بالجدّ!
أفهل يقاس سفاسف هؤلاء الشّكساء، مع خطب وتعاليم نبيّ اللّه موسى (عليه السّلام) ممّا جاء في التوراة، بارعة ورصينة، وهكذا بشائر المسيح (عليه السّلام) البديعة جاءت مسطورة في الأناجيل، فضلاً عن حكم وآداب رشيدة استوعبها القرآن الكريم بكمال وفصيح بيان؟!
نعم، لا يقاس الحجر بالجوهر، ولا الخزف بالصدف ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 29]

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد