قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الصدر
عن الكاتب :
ولد في مدينة الكاظمية المقدسة في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1353 هـ، تعلم القراءة والكتابة وتلقى جانباً من الدراسة في مدارس منتدى النشر الابتدائية، في مدينة الكاظمية المقدسة وهو صغير السن وكان موضع إعجاب الأساتذة والطلاب لشدة ذكائه ونبوغه المبكر، ولهذا درس أكثر كتب السطوح العالية دون أستاذ.rnبدأ بدراسة المنطق وهو في سن الحادية عشرة من عمره، وفي نفس الفترة كتب رسالة في المنطق، وكانت له بعض الإشكالات على الكتب المنطقية. بداية الثانية عشرة من عمره بدأ بدراسة كتاب معالم الأصول عند أخيه السيد إسماعيل الصدر، سنة 1365 هـ هاجر إلى النجف الاشرف، لإكمال دراسته، وتتلمذ عند آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين وآية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي. أنهى دراسته الفقهية عام 1379 هـ والأصولية عام 1378 هـ عند آية الله السيد الخوئي.rnمن مؤلفاته: فدك في التاريخ، دروس في علم الأصول، نشأة التشيع والشيعة، فلسفتنا، اقتصادنا وغير ذلك.

الإنسان ودوره في الحركة التاريخية من زاوية مفهوم القرآن الكريم (1)

 

السيّد محمّد باقر الصدر
من الواضح أن الإنسان أو المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس لحركة التاريخ، وأننا ذكرنا أن حركة التاريخ تتميز عن كل الحركات الأخرى بأنها حركة غائية لا سببية فقط، ليست مشدودة إلى سببها، إلى ماضيها، بل هي مشدودة إلى الغاية، لأنها حركة هادفة لها علة غائية متطلعة إلى‏ المستقبل. فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية. والمستقبل معدوم فعلاً وإنما يحرك من خلال الوجود الذهني الذي يتمثل فيه هذا المستقبل.
إذن، الوجود الذهني هو الحافز والمحرك والمدار لحركة التاريخ، وهذا الوجود الذهني يجسد من ناحية جانباً فكرياً وهو الجانب الذي يضم تصورات الهدف، وأيضاً يمثل من جانب آخر الطاقة الإرادة التي تحفز الإنسان نحو هذا الهدف وتنشطه للتحرك نحو هذا الهدف. إذن هذا الوجود الذهني الذي يجسد المستقبل المحرك، هذا الوجود الذهني يعبر بجانب منه عن الفكر وفي جانب آخر منه عن الإرادة، وبالامتزاج بين الفكر والإرادة تتحقق فاعلية المستقبل ومحركيته للنشاط التاريخي على الساحة الاجتماعية.
وهذان الأمران الفكر والإرادة هما في الحقيقة المحتوى الداخلي الشعوري للإنسان، إن المحتوى الداخلي الشعوري للإنسان يتمثل في هذين الركنين الأساسيين وهما الفكر والإرادة. إذن المحتوى الداخلي للإنسان هو الذي يصنع هذه الغايات، ويجسد هذه الأهداف من خلال مزجه بين فكرة وإرادة.


وبهذا صحّ القول بأن المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس لحركة التاريخ، والبناء الاجتماعي العلوي بكل ما يضم من علاقات ومن أنظمة ومن أفكار وتفاصيل هذا البناء العلوي في الحقيقة مرتبط بهذه القاعدة، بالمحتوى الداخلي للإنسان مرتبط بهذه القاعدة ويكون تغيره وتطوره تابعاً لتغير هذه القاعدة وتطورها، فإذا تغير الأساس تغير البناء العلوي، وإذا بقي الأساس ثابتاً، بقي البناء العلوي ثابتاً.
فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للإنسان والبناء الفوقي والتاريخي للمجتمع، هذه العلاقة علاقة تبعية، علاقة سبب بسبب، هذه العلاقة تمثل سنة تاريخية تقدم الكلام عنها في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ «سورة الرعد الآية 11». هذه الآية واضحة جداً في المفهوم الذي أعطيناه وهو أن المحتوى الداخلي للإنسان، هو القاعدة والأساس للبناء العلوي، للحركة التاريخية، لأن الآية الكريمة تتحدث عن تغييرين: أحدهما تغيير القوم ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ﴾ يعني تغيير أوضاع القوم، شؤون القوم، الأبنية العلوية للقوم، ظواهر القوم، هذه لا تتغير حتى يتغير ما بأنفسهم. إذن التغيير الأساس هو تغيير ما بنفس القوم، والتغيير النابع المترتب على ذلك هو تغيير حالة القوم، النوعية، التاريخية، الاجتماعية. ومن الواضح أن المقصود من تغيير ما بالأنفس، تغيير ما بأنفس القوم بحيث يكون المحتوى الداخلي للقوم كقوم وكأمة وكشجرة مباركة تؤتي أكلها كل حين، متغيراً، وإلا تغير الفرد الواحد أو الفردين أو الأفراد الثلاثة لا يشكل الأساس لتغير ما بالقوم، وإنما يكون تغير ما بالقوم تابعاً لتغير ما بأنفسهم كقوم، كأمة، كشجرة مباركة تؤتي أكلها كل حين.


فالمحتوى النفسي والداخلي للأمة كأمة لا لهذا الفرد أو لذلك الفرد هو الذي يعتبر أساساً وقاعدة للتغييرات في البناء العلوي للحركة التاريخية كلها.
والإسلام والقرآن الكريم يؤمن بأن العمليتين يجب أن تسيرا جنباً إلى جنب. عملية صنع الإنسان لمحتواه الداخلي وبناء الإنسان لنفسه، لفكره، لإرادته، لطموحاته، هذا البناء الداخلي يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع البناء الخارجي، مع بناء الأبنية العلوية ولا يمكن أن يفترض انفكاك البناء الخارجي عن البناء الداخلي إلا إذا بقي البناء الخارجي بناء مهزوزاً متداعياً.
ولهذا سمى الإسلام عملية بناء المحتوى الداخلي إذا اتجهت اتجاهاً صالحاً سمّاها «بالجهاد الأكبر». وسمى عملية البناء الخارجي إذا اتجهت اتجاهاً صالحاً بعملية «الجهاد الأصغر» وربط الجهاد الأصغر بالجهاد الأكبر، واعتبر أن الجهاد الأصغر إذا فصل عن الجهاد الأكبر فقد محتواه وفقد مضمونه، وفقد قدرته على التغيير الحقيقي، على الساحة التاريخية والاجتماعية.
إذن هاتان العمليتان يجب أن تسيرا جنباً إلى جنب. وإذا انفكت إحداهما عن الأخرى، فقدت حقيقتها ومحتواها، وسمى الإسلام العملية الأولى، عملية بناء المحتوى الداخلي، بالجهاد الأكبر تأكيداً على الصفة الأساسية للمحتوى الداخلي وتوضيحاً لهذه الحقيقة، حقيقة أن المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس، ولهذا سمي بالجهاد الأكبر. فإذا بقي الجهاد الأصغر منفصلاً عن الجهاد الأكبر، حينئذ لا يحقق ذلك في الحقيقة أي مضمون تغييري صالح.


القرآن الكريم يعرض لحالة من حالات انفصال عملية البناء الخارجي عن عملية البناء الداخلي، قال سبحانه‏ وتعالى: ﴿ومِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ويُشْهِدُ اللَّهَ عَلى‏ ما فِي قَلْبِهِ وهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ * وإِذا تَوَلَّى سَعى‏ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ويُهْلِكَ الْحَرْثَ والنَّسْلَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ﴾ «سورة البقرة الآية 204- 205» يريد أن يقول بأن الإنسان إذا لم ينفذ بعملية التغيير إلى قلبه، إلى أعماق روحه، إذا لم يبن نفسه بناء صالحاً لا يمكنه أبداً أن يطرح الكلمات الصالحة، الكلمات الصالحة إنما يمكن أن تتحول إلى بناء صالح في المجتمع إذا نبعت عن قلب يعمر بتلك القيم التي تدل عليها تلك الكلمات، وإلا فتبقى الكلمات مجرّد ألفاظ جوفاء دون أن يكون لها مضمون ومحتوى.
فمسألة القلب هي التي تعطي للكلمات معناها، للشعارات أبعادها، ولعملية البناء الخارجي أهدافها ومسارها.
إلى هنا عرفنا أن الأساس في حركة التاريخ هو المحتوى الداخلي للإنسان، وهذا المحتوى الداخلي للإنسان يشكل القاعدة. 


الآن نتساءل:
ما هو الأساس في هذا المحتوى الداخلي نفسه؟ ما هي‏ نقطة البدء في بناء هذا المحتوى الداخلي للإنسان؟ وما هو المحور الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للإنسانية؟ المحور الذي يستقطب عملية البناء الداخلي للإنسانية هو المثل الأعلى.
عرفنا أن المحتوى الداخلي للإنسان يجسد الغايات التي تحرك التاريخ، يجسدها من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الإرادة بالتفكير. وهذه الغايات التي تحرك التاريخ يحددها المثل الأعلى. فإنها جميعاً تنبثق عن وجهة نظر رئيسية إلى مثل أعلى للإنسان في حياته، للجماعة البشرية في حياتها. وهذا المثل الأعلى هو الذي يحدد الغايات التفصيلية، وينبثق عنه هذا الهدف الجزئي وذلك الهدف الجزئي، فالغايات بنفسها محركات للتاريخ وهي بدورها نتاج لقاعدة أعمق منها في المحتوى الداخلي للإنسان وهو المثل الأعلى الذي تتمحور فيه كل تلك الغايات وتعود إليه كل تلك الأهداف.
فبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشرية صالحاً وعالياً وممتدّاً تكون الغايات صالحة وممتدة، وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدوداً أو منخفضاً تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضاً.
إذن المثل الأعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعة البشرية، وهذا المثل الأعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامة إلى الحياة والكون، يتحدد من قبل كل جماعة بشرية على أساس وجهة نظرها العامة نحو الحياة والكون، على ضوء ذلك تحدد مثلها الأعلى.
ومن خلال الطاقة الروحية التي تتناسب مع ذلك المثل الأعلى ومع وجهة نظرها إلى الحياة والكون تحقق إرادتها للسير نحو هذا المثل، وفي طريق هذا المثل.
إذن هذا المثل الأعلى هو في الحقيقة أيضاً يتجسد من خلال رؤية فكرية، ومن خلال طاقة روحية تزحف بالإنسان في طريقه، وكل جماعة اختارت مثلها الأعلى، فقد اختارت في الحقيقة سبيلها وطريقها ومنعطفات هذا السبيل وهذا الطريق.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد