قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الصدر
عن الكاتب :
ولد في مدينة الكاظمية المقدسة في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1353 هـ، تعلم القراءة والكتابة وتلقى جانباً من الدراسة في مدارس منتدى النشر الابتدائية، في مدينة الكاظمية المقدسة وهو صغير السن وكان موضع إعجاب الأساتذة والطلاب لشدة ذكائه ونبوغه المبكر، ولهذا درس أكثر كتب السطوح العالية دون أستاذ.rnبدأ بدراسة المنطق وهو في سن الحادية عشرة من عمره، وفي نفس الفترة كتب رسالة في المنطق، وكانت له بعض الإشكالات على الكتب المنطقية. بداية الثانية عشرة من عمره بدأ بدراسة كتاب معالم الأصول عند أخيه السيد إسماعيل الصدر، سنة 1365 هـ هاجر إلى النجف الاشرف، لإكمال دراسته، وتتلمذ عند آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين وآية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي. أنهى دراسته الفقهية عام 1379 هـ والأصولية عام 1378 هـ عند آية الله السيد الخوئي.rnمن مؤلفاته: فدك في التاريخ، دروس في علم الأصول، نشأة التشيع والشيعة، فلسفتنا، اقتصادنا وغير ذلك.

مصير الأمم (1)

 

السيّد محمّد باقر الصدر
1- سنّة النصر، حقٌّ طبيعيٌّ لا إلهيٌّ
حينما أراد أن يتحدّث عن انكسار المسلمين في غزوة أُحُد ـ بعد أن أحرزوا ذلك الانتصار الحاسم في غزوة بدر ـ تحدّث القرآن الكريم عن هذه الخسارة، ماذا قال؟ هل قال بأنّ رسالة السماء خسرت المعركة بعد أن كانت ربحت المعركة؟
.. لأنّ رسالة السماء فوق مقاييس النصر والهزيمة بالمعنى الماديّ، رسالة السماء لا تُهزم، ولن تُهزم أبداً، ولكن الذي يهزم هو الإنسان، حتّى ولو كان هذا الإنسان مجسّداً لرسالة السماء، لأنّ هذا الإنسان تتحكّم فيه سنن التاريخ. ماذا قال القرآن؟ ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس﴾.
هنا أخذ يتكلّم عنهم بوصفهم أناساً. قال بأنّ هذه القضيّة هي في الحقيقة ترتبط بسنن التاريخ. المسلمون انتصروا في بدرٍ حينما كانت الشروط الموضوعيّة للنصر ـ بحسب منطق سنن التاريخ ـ تفرض أن ينتصروا، وخسروا المعركة في أحد، حينما كانت الشروط الموضوعيّة ـ بحسب نفس المنطق ـ في معركة أُحُد تفرض عليهم أن يخسروا المعركة، ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس﴾آل_عمران:140.".
لا تتخيّلوا أنّ النصر حقٌّ إلهيٌّ لكم، وإنّما النصر حقٌّ طبيعيٌّ لكم، بقدر ما يمكن أن توفّروا الشروط الموضوعيّة لهذا النصر، بحسب منطق سنن التاريخ التي وضعها الله سبحانه وتعالى كونيّاً لا تشريعيّاً، وحيث إنّكم في غزوة أُحُد لم تتوفّر لديكم هذه الشروط خسرتم المعركة.


2- سنّة الامتحان
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾.
يستنكر القرآن عليهم أن يأملوا في أن يكون لهم استثناء من سنّة التاريخ، هل تطمعون أن يكون لكم استثناء من سنّة التاريخ. وأن تدخلوا الجنّة وأن تحقّقوا النصر، وأنتم لم تعيشوا ما عاشته تلك الأمم، التي انتصرت ودخلت الجنّة، من ظروف البأساء والضرّاء التي تصل إلى حدّ الزلزال، على حدّ تعبير القرآن الكريم؟ إنّ حالات البأساء والضرّاء التي تتعملق على مستوى الزلزال، هي في الحقيقة مدرسةٌ للأمّة، هي امتحان لإرادة الأمّة، لصمودها، لثباتها، لكي تستطيع بالتدريج أن تكتسب القدرة على أن تكون أمّةً وسطاً بين الناس.
إذ، نصر الله قريبٌ. لكن نصر الله له طريقٌ. نصر الله ليس أمراً عفويّاً، ليس أمراً على سبيل الصدفة، ليس أمراً عمياويّاً. نصرُ الله قريبٌ ولكن اهتدِ إلى طريقه. الطريق لا بدّ وأن تعرف فيه سنن التاريخ، لا بدّ وأن تعرف فيه منطق التاريخ، لكي تستطيع أن تهتدي إلى نصر الله سبحانه وتعالى. قد يكون الدواء قريباً من المريض، لكن إذا كان هذا المريض لا يعرف تلك المعادلة العلميّة، التي تؤدّي إلى إثبات أنّ هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء، لا يستطيع أن يستعمل هذا الدواء حتّى ولو كان قريباً منه.
فالاطّلاع على سنن التاريخ هو الذي يمكّن الإنسان من التوصّل إلى النصر. فهذه الآية تستنكر على المخاطبين بها أن يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن التاريخ.
الشروط الموضوعيّة للنصر
﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِين﴾.
هذه الآية أيضاً تثبّت قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، تحدّثه عن التجارب السابقة، تربطه بقانونها، توضّح له أنّ هناك سنّةً تجري عليه، وتجري على الأنبياء الذين مارسوا هذه التجربة من قبله، وأنّ النصر سوف يأتيه، ولكن للنّصر شروطه الموضوعيّة: الصبر، والثبات، واستكمال باقي الشروط. هذا هو طريق الحصول على هذا النصر، ولهذا تقول الآية: ﴿فَصَبرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله﴾. 
إذاً هناك كلمة اللّه لا تتبدّل على مرّ التاريخ، هذه الكلمة التي لا تتبدّل على مرّ التاريخ، هي علاقةٌ قائمةٌ بين مجموعةٍ من الشروط والقضايا والمواصفات، وضّحت من خلال الآيات المتفرّقة وجمعت على وجه الإجمال هنا. إذاً فهناك سنّة التاريخ.
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾.
﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾.


3- إخراج النبيّ يستتبع هلاك المجتمع
﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾.
هذه الآية الكريمة الأخيرة أيضاً تؤكّد المفهوم العامّ، حيث تقول: ﴿وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾. هذه سنّة سلكناها مع الأنبياء من قبلك، وسوف تستمرّ ولن تتغيّر. أهل مكّة يحاولون أن يستفزّوك لتخرج من مكّة، لأنّهم عجزوا عن إمكانيّة القضاء عليك، وعلى كلمتك وعلى دعوتك، ولهذا صار أمامهم طريقٌ واحدٌ: إخراجك من مكّة.
وهناك سنّة من سنن التاريخ وهي أنّه إذا وصلت عمليّة المعارضة إلى مستوى إخراج النبيّ من هذا البلد، بعد عجزها عن كلّ الوسائل والأساليب الأخرى، فإنّهم لا يلبثون إلاّ قليلاً. ليس المقصود أنّه سوف ينزل عليهم عذاب الله سبحانه وتعالى من السماء، لأنّ أهل مكّة أخرجوا النبيّ بعد نزول هذه السورة، استفزّوه وأرعبوه وخرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم  من مكّة إذ لم يجد له ملجأً وأماناً في مكّة، فخرج إلى المدينة ولم ينزل عذاب من السماء على أهل مكّة، وإنّما المقصود ـ في أكبر الظنّ من هذا التعبير ـ أنّهم لا يمكثون كجماعةٍ صامدةٍ معارضةٍ، يعني كموقعٍ اجتماعيٍّ لا يمكثون، لا كأناسٍ، كبشرٍ، لأنّ هذه النبوّة التي عجز هذا المجتمع عن تطويقها، سوف تستطيع بعد ذلك أن تهزّ هذه الجماعة كموقعٍ للمعارضة، وهذا ما وقع فعلاً. 
 

4- سنّة الاستبدال
يهدّد هذه الجماعة البشريّة التي كانت أنظف وأطهر جماعةٍ على مسرح التاريخ، يهدّدهم بأنّهم إذا لم يقوموا بدورهم التاريخيّ، وإذا لم يكونوا على مستوى مسؤوليّة رسالة السماء فإنّ هذا لا يعني أن تتعطّل رسالة السماء، ولا يعني أن تسكت سنن التاريخ عنهم، بل إنّهم سوف يُستبدلون. سنن التاريخ سوف تعزلهم، وسوف تأتي بأممٍ أخرى قد تهيّأت لها الظروف الموضوعيّة الأفضل لكي تلعب هذا الدور، لكي تكون شهيدةً على الناس، إذا لم تتهيّأ لهذه الأمّة الظروف الموضوعية لهذه الشهادة:
﴿إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
إذاً فالقرآن الكريم إنّما يتحدّث مع الجانب الثاني من عمليّة التغيير، يتحدّث مع الإنسان في ضعفه وقوّته، في استقامته وانحرافه، في توفّر الشروط الموضوعيّة له وعدم توفّرها.


5- سنّة تغيير البناء العلويّ الاجتماعيّ
﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾. المكوّن الإنساني يحتوي على عنصرين أساسيّين: أحدهما المحتوى الداخليّ النفسيّ الروحيّ للإنسان وهو القاعدة. والآخر هو الوضع الاجتماعيّ وهو البناء العلويّ. لا يتغيّر هذا البناء العلويّ إلّا وفقاً لتغيّر القاعدة. 
هذه الآية إذاً تتحدّث عن علاقةٍ معيّنة بين القاعدة والبناء العلويّ، بين الوضع النفسيّ والروحيّ والفكريّ للإنسان، وبين الوضع الاجتماعيّ، بين داخل الإنسان وبين خارج الإنسان، فخارج الإنسان، يصنعه داخل الإنسان، مرتبط بداخل الإنسان، فإذا تغيّر ما بنفس القوم تغيّر وضعهم، وعلاقاتهم، والروابط التي تربط بعضهم ببعض.
إذاً فهذه سنّة من سنن التاريخ، ربطت القاعدة بالبناء العلويّ ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد