قراءة في كتاب

هجر... أسطورة لا تنسى على وجه الدّهر

 

ربى حسين ..

"وقصبةُ هجر الصفا والمشقر والشّبعان، والمسجد الجامع في المشقر، وبين الصفا والمشقر نهر يجري يقال له العين". هذا النّص على قصره رسم الملامح الصّحيحة الأولى لمدينة هجر الشّهيرة، وهو مقتبس من أهم النّصوصة التّاريخيّة  للمؤرّخ أبو عبيدة في وصف هذه المدينة وتحديدها. وقد اعتمد عليه الكاتب الأستاذ عبد الخالق الجنبي في كتابه "هجر وقصباتها الثّلاث". وعرف الجنبي باحثاً في تراث ابن المقرب العيوني وكان قد أنجز دراسة في هذا السياق صدرت في ثلاث مجلدات بعنوان «شرح ديوان علي بن المقرب العيوني» أثارت هي الأخرى جدلاً كبيراً، لا سيما بعد أن عارض قبلها دراسة أصدرها باحث أردني هو الدكتور موسى الخطيب عن تراث ابن المقرب.

الكتاب هو ثمرة سنين من البحث الميداني المضني، الذي سبقه بحوثٌ أخرى في مضامين أمهات كتب الأدب والتاريخ والجغرافيا. وهو يكشف لأول مرّة عن موضع مدينة هجر المشهورة في التاريخ العربي، أكبر واحة نخيل في الوطن العربي المسمّاة "بحر النخيل" حيث يقدّر عدد أشجار النخيل بها قرابة مليون نخلة، وكذلك موضع حصنيها الأشهرين المشقر والصَّفا ونهرها محلم.

 

ويقول الكاتب في مقدّمة بحثه الكتاب:

وقد حاول الكثير من الكتاب والباحثين الوقوف على مواضع هذه الأماكن إلاّ أنّ منهم مَن أبعد النجعة فجعلها في غير أماكنها الصحيحة، ومنهم مَن حام حول الحِمى ولم يقع فيه إلى أنْ قيَّض الله للكاتب أن يكتشف التلّ الذي كان يقوم فوقه حصن المشقر في عام 1414هـ، فكان فاتحة خير لاكتشاف الحصن التوءم للمشقر، وأعني به حصن الصَّفا، ومن ثم التوصّل إلى معرفة العين التي كانت تُعرف في السابق باسم عين محلم الشهيرة، ثم أعقبه التوصُّل إلى معرفة موقع أهمّ مدينة عرفتها هذه المنطقة وأبعدها ذكراً في التاريخ والأدب العربيين ألا وهي مدينة هجر العظمى.

 

  بلاد زارها ومدحها الرّسول (ص)

 وقد استهل الكاتب بحثه بالحديث عن الأصداء المدوّية في التّاريخ والأدب العربي حول مدينة هجر. وقد جاء في الأثر المنسوب إلى النّبي (ص) في مدح هذه المنطقة: "لو كان العلم في الثّريّا لتناولته رجال من فارس، ولو فقد الإسلام من الدّنيا لوجد في هجر". وقد ذكرت هجر وقصباتها في أشعار ما يقارب الثماني والخمسين شاعرًا في حقبات تاريخيّة مختلفة أمثال امرؤ القيس وطرفة بن العبد. وأشهر من سكن هذه المدينة كانوا بني عامر بن الحارث، ومحارب بن عمرو والعمور الجوف والعيون والأحساء، الّذين خالطوا أهل هجر في دارهم، ولكنّهم سرعان ما أصبحوا أهل هذه البلاد وسادتها كلّها.

ومن ثم انتقل الكاتب في الفصل الثاني إلى تفصيل القصبات الثلاث وشرحهم بإسناد النّصوص التّاريخية الّتي تبيّن الحقيقة الكاملة والواضحة لتاريخ وجغرافيا هذه المنطقة:

 

جبل الشّبعان بقيّة البقيّة من قصبات هجر الثّلاث

عن أبي عبيدة أن الشبعان أحد قصبات هجر الثلاث بالإضافة إلى المشقر والصفا. الشّبعان (القارّة) "جبل بهجر يتبرّد بكهافه" معروف بشموخه المهيب وصخوره الشّقراء الجيريّة الأخاذة ووقوعه وسط  بساتين الأحساء الخلّابة وأنهاره الدّفاقة. ويرى الكاتب أنّ ظاهرة ما يسمّى التّجوية التمايزيّة خلّفت أخاديد صخريّة عميقة في الجبل وكهوف ذات أعماق متفاوتة كانت في وقت سابق لعصر اكتشاف النّفط المنتجع الصّيفي لأهالي الهفوف والقرى المحيطة بالجبل. وأشار الجنبي وبعد معاينته للمنطقة أنّ أشهر هذه الكهوف لدى السّيّاح هما النّشاب وغار الفخّار لما أولتهم الجهات المعنية في الأحساء من اهتمام بها، خالصًا إلى أنّ مدينة الهجر كانت تقع عند سفح الرّكن الشمالي الغربي لجبل الشّبعان المواجه لقرية القارّة.

 

المشقّر: الحصن الحصين

وقد أورد الكاتب عن بني تميم قوله: "فأدخلهم المشقر وهو حصن حياله حصن يسمّى الصفا، وبينهما نهر يقال له محلم".  فالمشقر حصنٌ مبني على هضبة سامقة تقصر حتّى الوعول عن ارتقائها، في وسطها قلعة تسمّى عُطالة يوجد في أعلاها بئرٌ تثقبها إلى أسفلها حيث عين ماء عظيمة في سفح هذه القارّة لا ينضب معينها يستقي منها أصحاب القلعة، وهو ما جعلها تغدو قلعة حصينة عجز كل من حاصرها عن فتحها. وقد نال هذا الحصن العظيم شهرة كبيرة وارتبط بيوم يعد من أشهر أيّام العرب عُرف في التّاريخ باسم يوم المشقر أو يوم السّفقة نسبة إلى صفقة باب هذا الحصن على بني تميم فيه حيث تم قتل الكثيرين منهم بداخله. وفي مقاربة تاريخيّة خلص الكاتب إلى أن الّمشقر هي ما تقوم عليها قرية القارّة اليوم.

 

الصفا: الحصن التّوأم للمشقر

وفي القسم الأخير من بحثه انفرد الكاتب بالحديث عن الصّفا وموقعه المجهول، مشيرًا إلى أنّ اسم الصفا أطلق على مدينة وحصن يقع على تلّ مجاور للمشقّر، كما أنّ تسمية الصفا كانت تطلق على نهرٍ كان يتفرّع من نهر ملحم الكبير الّذي تدين له نخيل هجر بالفضل في سقيها وريّها حتّى غدت مضرب الأمثال في الجودة. مضيفًا أنّه وعلى هذا التّل، صخرة منحوتة على هيئة الرّؤوس الثلاث لكنّها لا تضاهي تلك التي على تلّ المشقّر في الفنّ والإبداع والدّقة. استطاع الكاتب الجنبي التّحقّق بنفسه أيضًا من أماكن القصبات الثّلاث وخاصّة الصّفا بعدما كانت محط شكّ للكثيرين بمقارنة الكتل الصّخريّة بين التّلين، وتتبّع أثر مرور بني آدم عليه. وقد استطاع الجزم لنا وبعد معاينته العينيّة لمنطقة الأحساء، بأنّه وصل في نهاية المطاف إلى اكتشاف التّل المفقود لحصن الصّفا. واستدرك حينها سبب تسميته بالصّفا، التي هي الحجارة العريضة الملساء الّتي لا تنبت شيئًا، وذلك بسبب ملامسته لحجارة بيض عريضة ضخمة على شكل قبب ملساء لا نبت فيها. فمدينة الصّفا كانت تقع عند جبل يسمّى اليوم باسم جبل الحصيص الواقع للشمال من قرية التويثر، وعين ملحم فهي العين الحارّة بالمبرز.

ويبقى هذا الكتاب خطوة للمحافظة على إرثٍ تاريخيّ يحفظ للمنطقة عراقة هويّتها وانتماءها، أهداه كاتبٌ من واحة القطيف إلى واحة الأحساء فـ: معًا كنتما..ومعًا سوف تبقيان... رمزًا..للعراقة..والحضارة..والخلود..والنّخل

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد