قراءة في كتاب

وسط الطوفان: الحاجّة "دبّاغ" وتر في غمد الثّورة الإسلامية

 

ربى حسين ..

"وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ". هكذا يقطع القرآن السّبيل لكل متربّص بالإسلام وأهله وتعاليمه السّمحة تجاه المرأة ودورها.  فالإسلام مليء بأمثلة واعدة عن نساء قدوة، بذلن في سبيله سنيّ عمرهنّ، مثل "السّيدة خديجة (ع) وابنتها فاطمة(ع)،  والشهيدة سمية أول شهيدة في الإسلام الّتي تمسكت بالدين الإسلامي وبالتوحيد واستشهدت وهي تردد (أحد... أحد)".
 

يأتي كتاب "23 عامًا وسط الطّوفان" ليؤرّخ لحياة امرأة حديديّة في زمان الشّاه، الحاجّة مرضيّة (دبّاغ)، الّتي اتّخذت من حياة فاطمة الزّهراء سيدة نساء العالمين (ع) أمّ أبيها خير خلق الله محمد (ص)، المثال الأسمى لها، ولكلّ امرأةٍ مسلمة، أتت لتوصل ما قُطع، مؤكّدة أن لا شيء يقف في طريق محرابها، ولا حتّى جهادها الأكبر.

 

نشأتها ورياح التّغيير

يتناول الفصل الأول من الكتاب، نشأة المناضلة الحاجة مرضيّة حديدجي الّتي ولدت  في العام 1939 م في مدينة همدان، ونشأت في أسرة متدينة ومثقفة. بدأت مرضيّة دراستها في الكتاتيب، واستفادت كثيراً من علوم أبيها في تعلّم القرآن الكريم ونهج البلاغة. تزوجت من السيد (محمد حسن دباغ) في عام 1954م، فكان هذا الزواج بداية ومنشأ التغيير في حياتها. تذكُر السّيدة مرضيّة أن زواجها كان بسيطًا جدًا، بأدنى حد من التوقّعات، فمضافًا إلى إهداء نسخة من القرآن الكريم ومرآة وشموع - حسب العرف الإيراني، تعيّن مقدار المهر وهو ألف تومان وخمس مثاقيل ذهب.

 

المعترك السّياسي

سافرت في الأيام الأولى من بداية حياتها المشتركة مع زوجها إلى طهران، فأكملت دراستها للعلوم الدّينيّة، مستعينة بكبار الأساتذة كالمرحوم الحاج آغا كمال مرتضوي، والشهيد آية الله محمد رضا سعيدي.

بدأت السيدة (دباغ) حركتها وأنشطتها السياسية بتوزيع المنشورات في الأعوام 1961-1962م، وهي آنذاك أمّ لثمانية أبناء. وازداد نشاطها عند دخولها في الخلايا التي أشرف عليها الشهيد "سعيدي" في طهران. تذكر السّيدة في مذكّراتها أنّ زوجها قال لها في بداية أيّام النّضال "إنّني لست راضيّا بأن تشغلي نفسك بهذه الأمور". وعندما اتصل الشّهيد سعيدي ليسلّمها مهمة، أعلمته أنّ زوجها لا يقبل بهذه الأعمال. وبعدما اجتمع به، وبيّن له أنّ هذا الكفاح تجارة مربحة، وأنّ زوجته امرأة كفوءة، جريئة، ردّ عليه الزّوج قائلًا "سيّدي إنّ مرضيّة لخدمة الإسلام، والقرآن، والسّيد الخميني، وعليه فأنا لا أمانع، كل ما ترى أنت فيه مصلحة".

 

الإمرأة الحديديّة خلف القضبان

تنتقل السّيدة مرضيّة في كتاب مذكّراتها لترسو على برّ أشدّ أيّام حياتها قسوة وقهرًا بل فخرًا. تحمّلت مع ابنتها "رضوانة" -الّتي اعتقلت لكسر شوكة الحاجّة- أشد وأوحش تعذيب لا يحتمل، لكنها بقيت محتسبة لأمر ربّها، مواسية سيّدة النّساء الّتي كسر ضلعها وأسقط جنينها، وابنتها زينب (ع) الذي اسودّ جسمها من ضرب السّياط والحديد يوم عاشوراء.

 تذكر الحاجّة أن الضّرب بالهراوات والسّياط والصّعق بالكهرباء كان قوتًا يوميًّا لستة عشر يومًا، كما أنّ رجال الأمن كانوا يعمدون إلى إطفاء سجائرهم في أماكن حسّاسة من بدنهما، وبعضهم كان يدخل الزّنزانة سكرانًا عريانًا. وتضيف أنّهم رفعوا من على رأسها هي وابنتها العباءات بذريعة أن لا تنتحرا أو تشنقا نفسيْهما، "لكن كان واضحًا أنّ الهدف تمزيق الحجاب والسّتر، وتضعيف معنويّاتنا". وقد عمدتا إلى لفّ نفسيهما باللّحافات المتوفّرة وهما في الصيف القائظ والحار، ما أثار دهشة السّجانين قائلين"الأم باللّحاف، والبنت باللّحاف".

وفي ليلة ضائعة من أيّام الدّهر عمدوا إلى فصل الأمّ عن بنتها، وبدأو بتعذيبها بوحشيّة قاتلة لابنة طاهرة ترتدي العباءة السّوداء وتضع برقعًا على رأسها وتذهب الى المدرسة. لكنّها لم تعترف على الرّغم من فظاعة ما حلّ بها، حتّى عادوا بها أشلاء ممزّقة مبضّعة البدن غارقة بالدّماء إلى حضن أمّها.

 وبعد أشهر أعيد اعتقالها وسجنها مرةً أخرى، وفي هذه الفترة من السجن انتفضت بثورة من خلال مواجهة آيديولوجية ضد الجماعات الماركسية، فكانت تجمع النساء المسلمات السجينات حولها.

 

الثّورة في المهجر

سافرت السيدة دباغ إلى الخارج في عام 1974  لمواصلة الكفاح والنضال، وبقيت في المهجر إلى حين انتصار الثورة الإسلامية، فتدربّت على السلاح وحرب العصابات وفنون القتال في القواعد العسكرية على الحدود الواقعة بين لبنان وسوريا. لم تغفل السّيدة في مذكّراتها، عن ذكر المعانات العائليّة الّتي جاهد الجميع لتخطّيها خصوصًا في هذه الفترة الّتي لم يكن زوجها يعلم أين هي؟ وعندما وصل إلى طرف خيط أتى من إيران إلى لبنان ليراها لبضع ساعات ويطمئنّ عليها....

وفي كثير من حركات وأنشطة الثوار في الخارج، كانت الحاجّة تمارس دوراً فاعلاً ونشطاً في المسيرات الاحتجاجية، والتحقت بأنصار الإمام الخميني بعد هجرته إلى باريس في العام 1978م، حيث استلمت مسؤولية إدارة شؤون بيت الإمام الخميني قدس سره.

 

العودة بعد النّصر

يتناول الكتاب في فصله الأخير عودة السيدة طاهرة دباغ إلى أرض الوطن بعد انتصار الثورة الإسلامية، ليكون أحفادها الجدد الّتي لم ترهم قط أول المستقبلين لها في المطار. ولم تكلَّ هذه المناضلة، فتبوّأت عدة مناصب ومسؤوليات، كرئاسة الحرس الثوري في همدان، والّتي استقالت منه بسبب شظيّة في ساقها أعاقت تحرّكها، ورئاسة قوات التعبئة للأخوات، وتمثيلها أهالي طهران وهمدان في مجلس الشورى لثلاث دورات، مضافاً إلى التدريس في جامعة العلم والتكنولوجيا، المدرسة العالية للشهيد مطهري.

 

أصعب أيّام العمر

تذكر السّيدة مرضيًة أن في يوم من الأيام أوكل الإمام الخميني لها وآية الله جوادي الآملي مهمة إيصال رسالة سرّية الى غوربتشوف، أحد قيادي موسكو النّافذين آنذاك. وقال لها أحد المعنييّن "إن لم تكتبي وصيّتك لحدّ الآن، فعليك فورًا كتابتها". وقد نجح الوفد في مهمّته، تلك وكانت بداية واعدة لتحريك الأمور نحو السّلام والاستقرار المطلوب في المنطقة. تلفت السّيدة مرضيّة في الكتاب إلى كثير من الجوانب الّتي يعتقد البعض أنّها تحدّ النّساء، وكيف تعاملت معها السّيدة مرضيّة بحنكة ودهاء، لتؤكّد أنّ الحجاب والسّتر واللّباس لا يحدّان المرأة وفعاليّتها. وها هي تسحب يدها إلى داخل العباءة رافضة مصافحة من قاد امبراطوريّة الشّرق "غوربتشوف". والإمام "الخميني" عندما ضمّ هذه المرأة إلى الوفد، أراد أن يؤكّد أن حضور المرأة ضروري في جميع السّاحات، ليكون بذلك قد أزال كافة القيود والمحاذير الّتي تحد وتحجّم المرأة ووجودها.

 

السّيدات هنّ قادة نهضتنا

ولعلّ ما تحويه صفحات هذا الكتاب من أحداث ونضالات وقهر ومتاعب، دليل دامغ على أنّ المرأة تكون حين يجب أن تكون. وبرحيل الحاجّة مرضيّة خسر العالم الإسلامي امرأة حديديّة روت عطش الكثيرات، فنسوتنا يظهرن بهذا الشّكل الّذي يواجهن ويتحدّين فيه القوى الاستكباريّة العظمى.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد