يقول المؤرخون: إن عبد الملك بن مروان، هو أول من ضرب النقود في الإسلام. ويوردون في سر ذلك حكاية طويلة نلخصها بما يلي:
إن الكسائي دخل على الرشيد فوجد بين يديه مالاً كثيراً، فأمر بتفريقه في خدمة الخاصة. وكان بيده درهم تلوح كتابته، وهو يتأمله. فقال: هل علمت أول من سنّ هذه الكتابة في الذهب والفضة؟ قال الكسائي قلت: يا سيدي هو عبد الملك بن مروان.
قال فما كان السبب في ذلك؟ قلت: لا علم لي غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة.. فقال الرشيد: سأخبرك.. كانت القراطيس[1] للروم.
قال: وكان أكثر من بمصر نصرانياً على دين ملك الروم، وكانت تلك القراطيس تطرز بالرومية، وكان طرازها: "باسم الأب، والابن، وروح القدس".
فلم يزل كذلك صدر الإسلام كله يمضي على ما كان قبله، حتى أيام عبد الملك؛ فتنبه له، وكان فطناً... فعندما ترجم له: أنكره، وقال: ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام.. إلى أن قال: فكتب عبد الملك لعامله على مصر: عبد العزيز بن مروان يأمره بإبطال ذلك الطراز، على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وأن يأمر صناع القراطيس: أن يطرزوها بصورة التوحيد: "شهد الله أنه لا إله إلا هو".
وكتب إلى عمال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء بالضرب الوجيع، والحبس الطويل..
فلما ثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد، وحمل إلى بلاد الروم، ومنها انتشر الخبر، ووصل إلى ملكهم، فترجم له ذلك الطراز الإسلامي؛ فأنكره وغلظ عليه، واستشاط غيظاً.. فكتب إلى عبد الملك يطلب منه أن يرجع الطراز إلى حالته الأولى، وأرسل إليه بهدية... فرد عبد الملك الهدية والرسول، وأعلمه أن لا جواب له.
فأضعف ملك الروم الهدية، وأرجع الرسول إلى عبد الملك، ومعه رسالة أخرى فرد عبد الملك الهدية والرسول، ولم يجبه أيضاً.. فغضب ملك الروم، وكتب إليه: أنه يقسم بالمسيح:
"لتأمرنّ برد الطراز إلى ما كان عليه، أو لآمرن بنقش الدراهم والدنانير؛ فإنك تعلم أنه لا ينقش منها شيء إلا ما ينقش في بلادي؛ فينقش عليها شتم نبيك الخ..".
فلما قرأ عبد الملك الكتاب صعب عليه الأمر، وغلظ، وضاقت عليه الأرض وقال: "أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام؛ لأني جنيت على رسول الله (ص) من شتم هذا الكافر ما يبقى غابر الدهر، ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب" إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم.
فجمع عبد الملك أهل الإسلام، واستشارهم؛ فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به.. فقال له روح بن زنباغ: إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر، ولكنك تتعمد تركه.. فقال: ويحك؟ من؟. فقال: عليك بالباقر من أهل بيت النبي (ص). قال: صدقت، ولكنه أرتج علي الرأي فيه..
فكتب إلى عامله بالمدينة: أن أشخص إلى محمد بن علي بن الحسين مكرماً، ومتعه بمأتي ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته، وأزح علته في جهازه، وجهاز من يخرج معه من أصحابه. وحبس رسول ملك الروم عنده إلى موافاة محمد بن علي. فلما وافاه أخبره الخبر..
فقال الباقر: لا يعظم هذا عليك؛ فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما: إن الله عز وجل لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول الله (ص). والأخرى وجود الحيلة فيه.. فقال عبد الملك: وما هي؟!..
قال: " تدعو في هذه الساعة بصناع يضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير وتجعل النّقش عليها سورة التوحيد، وذكر رسول الله (ص): أحدهما: في وجه الدراهم والدنانير. والآخر: في الوجه الثاني. وتجعل في مدار الدراهم والدنانير ذلك البلد الذي يضرب فيه، والسنة التي تضرب فيها تلك الدراهم والدنانير..
وتعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً، من الثلاثة الأصناف: التي العشرة منها عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل.. فتكون أوزانها جميعاً واحداً وعشرين مثقالاً، فتجزئها من الثلاثين؛ فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل. وتصب سنجات من قوارير، لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان؛ فتضرب الدراهم على وزن عشرة، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل..".
وكانت الدراهم في ذلك الوقت إنما هي الكسروية، التي يقال لها اليوم: "البغلية"؛ لأن رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية في الإسلام.. منقوش عليها صورة الملك، وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية "نوش خُر" أي كل هنيئاً. وكان وزن الدرهم منها قبل الإسلام مثقالاً، والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل، والعشرة وزن خمسة مثاقيل هي "السيمرية" الخفاف والثقال، ونقشها نقش فارس.. ففعل عبد الملك ذلك..
وأمره الباقر: أن يضرب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها، وأن يتهددوا بقتل من يتعامل بغير هذه السكك، من الدراهم والدنانير وغيرها. وأن تبطل، وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد على السكك الإسلامية.. ففعل عبد الملك ذلك، ورد رسول ملك الروم إلى آخر القصة..
وقال الرشيد للكسائي في آخرها: وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين إلى اليوم[2].
هذه هي القصة التي أوردوها لإثبات: أن عبد الملك هو أول من ضرب الدراهم والدنانير في الإسلام.. ولكن هذه الرواية لا تخلوا من مآخذ هامة، تجعلنا نقف منها موقف الحذر وذلك لأننا حتى لو غضضنا النظر عن:
1- أنه يفهم من هذه الرواية: أن الرشيد وحده هو الذي أزاح الستار عن هذه الأحداث الهامة، والتي تشتمل على مادة خصبة للرواة ونقلة الأخبار، والتي تنص على تلك المكاتبات بين عبد الملك، وملك الروم ،وشيوع أمر تغيير الطراز حتى وصل الخبر إلى ملك الروم، ثم جمع عبد الملك لأهل الإسلام واستشارته لهم والأهم من ذلك التجاؤه إلى خصومه وخصوم عرشه أهل البيت لحل هذه المشكلة حتى لقد قال جرجي زيدان: "فلم يشأ أن يستنجد أحد أئمة بني هاشم – وهم مناظروه في الملك – لكنه لم ير بدًّا من استقدامه الخ.. ".
فكيف بعد ذلك كله ينحصر مصدر الرواية بالرشيد، عدو الأمويين وأهل البيت معاً ؟! أم يمكن أن يكون الناس قد خافوا من الأمويين، ثم من العباسيين وحتى الكسائي – خافوا – أن يظهروا أمراً يتضمن فضيلة لأحد أئمة أهل البيت؟!. فكيف إذن.. وصلت لنا فضائل علي وسواه من أهل البيت عليهم السلام رغم اجتهاد الأمويين وغيرهم في طمسها ونقضها؟!..
2- إن الرواية تنص على أن أهل مصر كان أكثرهم نصارى.. مع أنه كان قد مضى على فتح مصر أكثر من نصف قرن؟!!.
3- تنص الرواية على أن عبد الملك لم يجب ملك الروم على رسالتيه في أمر الطراز.. وهو أمر غريب!! فلماذا لا يجيبه حتى ولو بالنفي؟!!.
4- يلاحظ: أن الرواية تحاول التأكيد على فطانة عبد الملك، وعلى غيرته الشديدة على الإسلام.. فهل يفهم من هذا أنه كان أغير، وأفطن من الخلفاء الذين سبقوه، فهو أكثر فطنة من الخليفة الثاني عمر، الذي تنص الرواية نفسها على أن أبا البغل قد ضرب الدراهم الكسروية له؟!!.
5- هل ثمة من سر يكمن في المقابلة بين ما تنص عليه الرواية من أن عبد الملك قد تهدد على مخالفة أمره في الطراز بالضرب، والحبس الطويل.. وبين نصها على أن الإمام قد أمر بالتهديد بالقتل لكل من يخالف ما رسم في أمر السكة والنقود ؟!!.
أحسب أن الأمر لا يخلو من شيء ما !! هو الذي اقتضى إظهار الإمام بمظهر القاسي الذي لا يرحم، وعبد الملك بخلافه!!.
6- يلاحظ: أن الرواية تهتم كثيراً في إعطاء أهمية قصوى لما قام به عبد الملك فهل هو من أجل أن توحي للناس بوجوب أخذ هذا الأمر مأخذ الجد بهدف تصديقه بالنسبة لعبد الملك، وإبعاد الأنظار عن المتبني الحقيقي لقضية النقود الإسلامية ؟!! كما سيأتي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] نوع من البُرُد، ويقال للصحيفة قرطاس أيضاً.
[2] راجع: المحاسن والمساوئ للبيهقي ج2 ص232 فما بعدها ط القاهرة، وط صادر ص468 وهامش اللمعة ط النجف ج1 ص51 فما بعدها، وتاريخ التمدن الإسلامي المجلد الاول ص136 وأكملها ص140 وحياة الحيوان ج1 ص53 فما بعده، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة المجلد الأول ص459 عنه، وعن العقد المنير ص18 وهامش ص7 من شذور العقود.. ونسبها ابن الأثير وأبو هلال العسكري في الأوائل، والسيوطي وغيرهم لخالد بن يزيد الأموي. وهو خطأ والقصة موجودة أيضاً في أعيان الشيعة.
السيد محمد حسين الطهراني
محمود حيدر
عدنان الحاجي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ علي رضا بناهيان
السيد عبد الحسين دستغيب
الشيخ محمد مهدي النراقي
الشيخ محمد صنقور
السيد جعفر مرتضى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ناجي حرابة
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
مَن أحبّ شيئًا لهج بذكره
(المهدوية، جدليّة الإيمان والمواجهة في الفكر العالميّ والضّمير الإنسانيّ) جديد الكاتب مجتبى السادة
وحيانيّة الفلسفة في الحكمة المتعالية (2)
الأطفال يبدأون التفكير منطقيًّا أبكر مما كان يعتقد
وقوع المجاز في القرآن (2)
سيكولوجية الكفر
المسلّمي يدشّن كتابه الجديد: (آداب المجالس الحسينيّة)
زكي السالم: (معارض الكتاب بين فشخرة الزّائرين ونفخرة المؤلّفين)
لا تجعل في قلبك غلّاً
قانون معرفة الفضائل الكلي