إن أبرهة، كغيره من الجبابرة، استمد سلطته من رغد العيش الذي وفّره الله لهم، ومنحه القدرة على الاستضعاف وقتل الطوائف ظلمًا وعدوانًا. فالملك أبرهة لم يكن إلا نسخة من ملوك الطغاة الذين سبقوه، كالفراعنة وغيرهم من الملوك الذين استبدوا بالحكم وسادوا بقوة السيف والجبروت. ففي شخص أبرهة تجسد صورة الحاكم الظالم الذي أدى به طغيانه إلى ارتكاب أبشع أفعال، وأخطرها نيته هدم الكعبة المشرفة، الفعل الذي أدى إلى هلاكه هو ومَن معه من الجيوش. وهذا يجعل قصة أبرهة عبرة لكل من يسعى للسلطة على حساب الحق والعدل.
قال تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (*) أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (*) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (*) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (*) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُول}.[1]
وإنّ لكم في القرون الماضية لعبرة
ذو نواس ملك اليمن اضطهد نصارى نجران قرب اليمن كي يتخلوا عن دينهم (ذكر القرآن قصّة هذا الاضطهاد في موضوع أصحاب الأخدود في سورة البروج، وبيّناها بالتفصيل هناك). بعد هذه الجريمة نجا من بين النصارى رجل اسمه (دوس) وتوجه إلى قيصر الروم الذي كان على دين المسيح، وشرح له ما جرى. ولما كانت المسافة بين الروم واليمن بعيدة، كتب القيصر إلى النجاشي (حاكم الحبشة) لينتقم من ذو نواس لنصارى نجران، وأرسل الكتاب بيد القاصد نفسه.
جهّز النجاشي جيشًا عظيمًا يبلغ سبعين ألف محارب بقيادة أرياط ووجهه إلى اليمن. وكان أبرهة أيضًا من قواد ذلك الجيش. اندحر ذو نواس وأصبح أرياط حاكمًا على اليمن، وبعد مدّة ثار عليه أبرهة وأزاله من الحكم وجلس في مكانه. بلغ ذلك النجاشي، فقرر أن يقمع أبرهة. لكن أبرهة أعلن استسلامه الكامل للنجاشي ووفاءه له. حين رأى النجاشي منه ذلك عفا عنه وأبقاه في مكانه.
وأبرهة من أجل أن يثبت ولاءه، بنى كنيسة ضخمة جميلة غاية الجمال، لا يوجد على ظهر الأرض مثلها آنذاك، وقرر أن يدعو أهل الجزيرة العربية لأن يحجّوا إليها بدل الكعبة، وينقل مكانة الكعبة إلى أرض اليمن. أرسل أبرهة الوفود والدعاة إلى قبائل العرب في أرض الحجاز، يدعونهم إلى حجّ كنيسة اليمن، فأحسّ العرب بالخطر لارتباطهم الوثيق بمكّة والكعبة ونظرتهم إلى الكعبة على أنّها من آثار إبراهيم الخليل عليه السّلام.
تذكر بعض الرّوايات أنّ مجموعة من العرب جاؤوا خفية وأضرموا النّار في الكنيسة. وقيل إنّهم لوثوها بالقاذورات، ليعبروا عن اعتراضهم على فعل أبرهة ويهينوا معبده. غضب أبرهة وقرر أن يهدم الكعبة هدمًا كاملًا، للانتقام ولتوجيه أنظار العرب إلى المعبد الجديد، فجهّز جيشًا عظيمًا كان بعض أفراده يمتطي الفيل، واتجه نحو مكّة. عند اقترابه من مكّة بعث من ينهب أموال أهل مكّة، وكان بين النهب مائتا بعير لعبد المطلب.
عبد المطلب كان على ملّة إبراهيم (ع)
بعث أبرهة قاصدًا إلى مكّة وقال له: ابحث عن كبير القوم وقل له إنّ أبرهة ملك اليمن يدعوك. أنا لم آت لحرب، بل جئت لأهدم هذا البيت، فلو استسلمتم، حقنت دماؤكم. جاء رسول أبرهة إلى مكّة و بحث عن شريفها فدلوه على عبد المطلب، فحدثه بحديث أبرهة، فقال عبد المطلب، نحن لا طاقة لنا بحربكم، وللبيت ربّ يحميه.
ذهب عبد المطلب مع القاصد إلى النجاشي، فلما قدم عليه جعل النجاشي ينظر إليه وراقه حسنه وجماله وهيبته، حتى قام من مكانه احترامًا وجلس على الأرض وأجلس عبد المطلب إلى جواره لأنّه ما أراد أن يجلس عبد المطلب على سرير ملكه ثمّ قال لمترجمه اسأله ما حاجتك؟ قال عبد المطلب: نهبت إبلي فمرهم بردّها عليّ. فاندهش أبرهة وقال لمترجمه: قل له إنّه احتل مكانًا في قلبي حين رأيته، والآن قد سقط من عيني. أنت تتحدث عن إبلك ولا تذكر الكعبة وهي شرفك وشرف أجدادك، وأنا قدمت لهدمها؟! قال عبد المطلب: أنا ربّ الإبل، وللبيت ربّ يحميه؟! عاد عبد المطلب إلى مكّة، وأخبر أهلها أن يلجأوا إلى الجبال المحيطة بها، وذهب هو وجمع معه إلى جوار البيت ليدعو فأخذ حلقة باب الكعبة وأنشد أبياته المعروفة:
لا همّ إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدًا محالك
جرّوا جميع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك
ولا همّ إن المرء يمنع رحله فامنع عيالك
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك.
ثمّ لاذ عبد المطلب وجمع من قريش بإحدى شعاب مكّة وأمر أحد ولده أن يصعد على جبل أبو قبيس ليرى ما يجري. عاد الابن مسرعًا إلى أبيه وأخبره أن سحابة سوداء تتجه من البحر (البحر الأحمر) إلى أرض مكّة. استبشر عبد المطلب و صاح: “يا معشر قريش ادخلوا منازلكم فقد أتاكم اللّه بالنصر من عنده“.
من جانب آخر، توجه أبرهة راكبًا فيله المسمى محمودًا مع جيشه الجرار مخترقًا الجبال ومنحدرًا إلى مكّة، لكن الفيل أبى أن يتقدم، أمّا حينما يوجهوه نحو اليمن يهرول، تعجب أبرهة من هذا وتحيّر. وفي هذه الأثناء وصلت طيور قادمة من جانب البحر كأنها الخطاطيف وهي تحمل حجرًا في منقارها وحجرين في رجلها، بحجم الحمّصة، وألقوها على جيش أبرهة، فأهلكتهم. وقيل: إنّ الحجر كان يسقط على الرجل منهم فيخترقه ويخرج من الجانب الآخر.
ساد الجيش ذعر عجيب، فهلك منه من هلك، وفرّ من استطاع الفرار، صوب اليمن، وكانوا يتساقطون في الطريق. فأبرهة أصيب بحجر، وجرح، فأعيد إلى صنعاء عاصمة ملكه، وهناك فارق الحياة. وقيل: إنّ مرض الحصبة والجدري شوهد لأوّل مرّة في أرض العرب في تلك السنة. وقيل: إنّ أبرهة جاء بفيل واحد كان يركبه واسمه محمود. وقيل: بل ثمانية أفيال، وقيل: عشرة، وقيل: اثني عشر.
و في هذا العام ولد رسول اللّه (ص) حسب الرّواية المشهورة، وقيل إنّ بين الحادثتين ارتباطًا. على أي حال، فإن أهمية هذه الحادثة الكبرى بلغت درجة تسمية ذلك العام بعام الفيل، وأصبح مبدأ تاريخ العرب.[2][3]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – الفيل: 1-5.
[2] – مكارم الشيرازى، الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج20، ص461-465.
[3] – سيرة ابن هشام، ج 1، ص 38- 62؛ 4 – بلوغ الإرب، ج 1، ص 250- 263؛ 5 – بحار الأنوار، ج 15، ص 130 و ما بعدها؛ 6 – مجمع البيان، ج 10، ص 542.
السيد محمد حسين الطهراني
محمود حيدر
عدنان الحاجي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ علي رضا بناهيان
السيد عبد الحسين دستغيب
الشيخ محمد مهدي النراقي
الشيخ محمد صنقور
السيد جعفر مرتضى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ناجي حرابة
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
مَن أحبّ شيئًا لهج بذكره
(المهدوية، جدليّة الإيمان والمواجهة في الفكر العالميّ والضّمير الإنسانيّ) جديد الكاتب مجتبى السادة
وحيانيّة الفلسفة في الحكمة المتعالية (2)
الأطفال يبدأون التفكير منطقيًّا أبكر مما كان يعتقد
وقوع المجاز في القرآن (2)
سيكولوجية الكفر
المسلّمي يدشّن كتابه الجديد: (آداب المجالس الحسينيّة)
زكي السالم: (معارض الكتاب بين فشخرة الزّائرين ونفخرة المؤلّفين)
لا تجعل في قلبك غلّاً
قانون معرفة الفضائل الكلي