عبادة الله رياضة تكمّل النفس وترتقي بالإنسان من أدنى مراتب الإنسانية إلى أكملها فتصنع الإنسان الذي يرضاه الله لنفسه، وهي الوسيلة الوحيدة التي اختارها الله لعباده لكي يعرجوا إلى أعلى مراتب القرب والوصال. ويشرح الإمام الخميني (قده) في كتابه الموسوم بآداب الصلاة، هذا الدور المحوري للعبادة، وكيف يحصل هذا التكميل، وما هي شروط ذلك؛ فيقول:
إنّ المرحلة الأولى تتمثل في تشكُّل باطن القلب والنفس بصورة العبادة من خلال التكرار والإكثار بشرط أن يؤدي العابد هذه العبادات بطمأنينة القلب وسكون الخاطر، وإلا لم يكن لهذه الأذكار والمناسك فيه أي تأثير ولا يسري أثر العبادة من ظاهر البدن وملكه إلى ملكوته وباطنه ولا يؤدي إلى القلب حظوظه من العبادة.[1]
ففي هذه المرحلة يجب على العابد أن يسري روح العبادة من ظاهره ولسانه وأعضائه إلى قلبه ولا يتمكن من ذلك إلا إذا حقق حالة من الاستقرار القلبي (الطمأنينة) أثناء ذلك، مثلما أنه يجب عليه أن يحقق هذا الأمر في ظاهره أولًا. وما يقابل ذلك هو أن يؤدي العبادة في حال اضطراب القلب وتزلزله، الأمر الذي يجب معرفة أسبابه والتعامل معه بحسب أصوله.
فالقلب هو تلك القوة التي تنفعل مع كل حوادث العالم والحياة وتقلباتها سواء كانت من جهة الجلال أو الجمال (الخير والشر، الحسن والقبح..)، وأي محاولة لتجميده خوفًا من الانفعال والتقلُّب ستؤدي إلى عواقب وخيمة، حيث إنّ القلب القاسي هو أبعد شيء عن الله تعالى كما جاء في الحديث الشريف.[1] فليس المطلوب تجميد القلب لتحصيل الطمأنينة، بل المطلوب المحافظة على سلامته ليبقى هذا الانفعال في أعلى حالاته لأن كل حوادث العالم ليست سوى رسائل إلهية لنا يجب أن نتعامل معها بالروح والقلب والعقل، وهي وسيلتنا للاتصال بالله والارتباط به. وإنما المطلوب هنا تسليم هذا القلب لصاحبه ومشاهدة كيف يقلبه سبحانه بإصبعيه كما جاء في الحديث المشهور: "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء".[2] فحين نصل إلى مرحلة شهود هذا التقليب الإلهي ونكون بمثابة المتفرجين على قلوبنا، قد نصل إلى حالة الطمأنينة والثبات ونصبح مستعدين للمرحلة التالية التي يقول الإمام (قده) عنها:
"وقد ذكرنا من قبل أنّ المطلوب في العبادات هو أن يتصوّر باطن النفس بصورة العبودية. والآن نقول: إنّ من أسرار العبادات والرّياضات ونتائجها أن تصبح إرادةُ النّفس نافذةً في ملك البدن، وتصير مملكةُ النّفس منقهرةً ومضمحلّةً في كبريائها، وتسيطر الإرادة على القوى المبثوثة والجنود المنتشرة في مُلك البدن وتمنعها من العصيان والتمرّد والأنانيّة، وتكون القوى مسلّمة لمَلَكوت القلب وباطنه، بل تصير جميع القوى بالتدريج فانيةً في المَلَكوت، ويسري أمرُ المَلَكوت في المُلك وينفذ فيه، وتقوى إرادةُ النّفس، ويفلُت زمامُ المَملكة من يد الشّيطان والنفس الأمّارة، وتُساق جنودُ النّفس من الإيمان إلى التّسليم ومن التّسليم إلى الرّضا ومن الرّضا إلى الفَناء. وفي هذه الحالة تنال النفس نفحة من أسرار العبادات، وتدرك نسمة من التّجلّيات الفعليّة. وما ذكرنا لا يتحقق إلّا بأن تؤدَّى العبادات بنشاطٍ وبهجة ويُحترز فيها من التّكلّف والإكراه والكسل احترازًا تامًّا، كي تحصلَ للعابد حالةُ المحبّة والعشق لذكر الحقّ ولمقام العبوديّة، ويحصلَ له الأنس والتمكّن".[3]
ففي بداية الأمر وحين الولادة تكون العلاقة بين النفس والبدن شبه منقطعة، حيث تكون النفس ما زالت متعلقة بنفس الأم وعليها أن تبدأ رحلة اكتشاف البدن وتسخيره. لهذا تكون الأقاليم السبعة للبدن وهي العين والأذن واللسان واليدين والرجلين والفرج منفعلة تجاه كل ما يرد عليها من خارج النفس، ولهذا أيضًا تكون خارجة عن إرادته التي تكون بشكل طبيعي ضعيفة أول الأمر. وإذا استمر الأمر على هذا المنوال، فمن المتوقَّع أن تصبح هذه الأقاليم شبه مستقلة عن مركز القرار خاضعة لتلك المؤثرات الخارجية مثل الأعراف والظروف والمحفزات والمشتهيات والمرغبات والمخوفات وغيرها. فنجد أن المعدة مثلًا تتحرك وتطلب وتطالب بمعزل عن العقل وحكومته وتنفعل لأدنى محفّز شهوي وتطلب الطعام أو الشراب، حتى لو لم يكن البدن بحاجة إليه. والأمر كذلك في اللسان الذي يتم تدريبه من قبل الوالدين والآخرين لكي ينطلق دون تعقُّل أو حساب، حتى إذا انطلق وتدرّب جيدًا على النطق ينطق بما لا يفيد أو ينفع، حتى لو جلب لصاحبه أسوأ العواقب. فغالبًا ما تؤدي التربية العشوائية والفاسدة إلى خروج هذه القوى الأساسية للنفس عن إرادتها وسلطنتها، حيث سيتطلب ذلك في المستقبل الكثير من المجاهدة والرياضة. وهنا يأتي دور العبادة كما صرح الإمام بشرط مراعاة شرط آخر يعتبره ضروريًّا ومحوريًّا وهو النشاط والبهجة والاحتراز عن الكلفة والكسل.
يجب إعداد النفس لكي تسخّر كل قواها في التفاعل المطلوب مع هذا العالم بما فيه من فرص وإمكانات أعدها الله تعالى لتكميلها. وما لم تكن تلك القوى ممتثلة لأوامرها فلن تتمكن من تحقيق ذلك، بل ستُساق إلى ما لا ترتضيه وتسقط في الندامة ولا ينفعها اللوم، لأنّها قد تتحول إلى نفس أمّارة بالسوء كما يحصل لبعض الآباء حين ينساقون لرغبات أبنائهم الجهلة والمغرورين (خشية خسارتهم) فيجرّهم هؤلاء الأبناء إلى مستنقع المساوئ والمهلكات. ولا شك بأنّ هذه النفس لن تعزم على البدء بهذه المجاهدة ما لم تؤمن بضرورة السير والوصول إلى مقام القرب الإلهي، الأمر الذي يحصل من خلال العقل والتعقُّل.
فلكي تؤتي العبادة أُكلها وتنتج نتائجها الطيبة يجب أولًا العزم على السير والاقتناع التام بضرورة القيام بهذه المجاهدة ومعرفة دور عبادة الله في تحقيق ذلك وهذا ما يسعى الإمام إلى بيانه من خلال هذا الكلام الرائع. فالعبادة هنا هي الوسيلة الأولى لتسخير تلك الأقاليم التي عصت وتمرّدت وشردت واستقلت وأصبحت بسبب ذلك تحت تصرُّف الشيطان لعدم سريان نور الهداية من المركز إليها.
أما إذا أدّى السالك هذه العبادة بنشاط وبهجة، فمن المتوقَّع أن تسلّم هذه الجنود والقوى، ثم ترضى، وتفنى بعدها في إرادة النفس بالكامل. ولأنّ تجربة هذه العبادة سيكون لها وقعٌ جميل ولذيذ، فإنّ السالك سوف ينتقل من البهجة والنشاط إلى حالة الالتذاذ والمحبة، ويؤدي العبادة بعد ذلك بشوقٍ بالغ وإقبالٍ منقطع النظير ويذوق حلاوتها فلا يفضّل عليها شيئًا.
وبتحقُّق هذا الهدف الأول الذي يكمن في قلب العبادة ويُعد من أسرارها، يتوفّر للسالك الانتقال إلى المرحلة الثالثة وهي التي يقول الإمام (قده) عنها:
"ذكرنا سابقًا أنّ العبادات والمناسك والأذكار والأوراد إنّما تنتج نتيجةً كاملةً إذا صارت صورةً باطنيّةً للقلب، وتخمّرَ باطنُ الإنسان بها وأصبح قلبُه على صورة العبوديّة وخرج عن الهوى والعصيان؛ وذكرنا أيضًا أنّ من أسرار العبادات وفوائدها تقوية إرادة النفس، وتغلّبها على الطبيعة، حيث تكون القوى الطبيعية مسخّرةً لقدرتها وسلطنتها، وتكون إرادة النّفس المَلَكوتيّة نافذةً في مُلك البدن بحيث تكون القوى بالنّسبة إلى النّفس كملائكة الله بالنسبة إلى الحقّ تعالى: ﴿لَا يَعصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ﴾.
والآن نقول: إنّ من أسرار العبادات وفوائدها المهمّة التي تكون بقيّة الفوائد مقدّمة لها، أن تصبح مملكة البدن بكلّها، ظاهرها وباطنها، مسخّرةً تحت إرادة الله ومتحرّكةً بتحريك الله تعالى، وتكون القوى المَلَكوتية والمُلكيّة للنّفس من جنود الله، وتكون كلّها كملائكة الله. وهذه من المراتب النّازلة لفناء القوى والإرادات في إرادة الحقّ. ويترتّب على هذا بالتّدريج النّتائج العظيمة ويصبح الإنسان الطبيعيّ إلهيًّا، وتكون النّفس مرتاضةً بعبادة الله، وتنهزم جنودُ إبليس بشكل نهائيّ وتنقرض، ويكون القلب مع قواه مسلّمًا للحقّ ويَبرز الإسلام ببعض مراتبه الباطنيّة في القلب. وتكون نتيجة هذا التّسليم لإرادة الحقّ في دار الآخرة أنّ الحقّ تعالى ينفذ إرادة صاحب هذا القلب في العوالم الغيبيّة ويجعله مثلًا أعلى لنفسه. فكما إنّه تعالى وتقدّس يوجد كلّ ما أراد بمجرد الإرادة، يجعل إرادة هذا العبد أيضًا كذلك؛ كما روى بعض أهل المعرفة عن النبي (ص) في وصف أهل الجنّة أنّه يأتيهم ملكٌ فيستأذن للدخول عليهم، وبعد الاستئذان يدخل ويبلّغهم السّلام من الله تعالى، ويُعطي كلًّا منهم رسالةً مكتوبًا فيها:
«من الحَيّ القَيُّوم الَّذي لَا يَمُوتُ إلَى الحَيّ القَيُّوم الَّذي لَا يَمُوتُ أَمَّا بَعدُ فَإنّي أَقُولُ للشَّيء كُن فَيَكُون وَقَد جَعَلتُكَ تَقُولُ للشَّيء كُن فَيَكُون، فَقَالَ(ص): فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ من أَهل الجَنَّة للشَّيء كُن إلّا وَيَكُون». وهذه هي السّلطنة الإلهيّة التي تُعطى للعبد لأجل تركه إرادة نفسه وترك سلطنة الأهواء النّفسانيّة وإطاعة إبليس وجنوده".[4]
فبعد فناء القوى وانقياد الأقاليم لإرادة النفس وسلطنته وحيث إنّ النفس قد تنوّرت بنور العقل وعزمت على السير إلى الله والفناء في إرادته، فإنّ هذه المرحلة هي مرحلة خضوع النفس بكل قواها لسلطان العالم والوجود، لا تتحرّك إلا بتحريكه، ولا تنقاد إلا لإرادته، ولا تفعل إلا ما يرضيه. وبذلك يصل هذا العبد بفضل الاستمرار على هذه الرياضة وأداء العبادة بحضور قلب وتوجُّهٍ كامل إلى مقام مظهرية الحق تعالى التي جاء التعبير عنها في الآيات والأحاديث الشريفة حيث يكون إنسانًا ربانيًّا مصبوغًا بصبغة الحق المتعال ولا يوجد في وجوده سوى ظهور الأسماء والصفات.
فمن حالة الضعف التام والتشتُّت والضياع إلى مرحلة الكمال المطلق، تكون المداومة على عبادة الله بنشاط وبهجة وحضور قلب وإقبال العامل الأول، وبفضلها يتحقق العبد بمقام القرب ويصل إلى مبتغاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): مِنْ عَلَامَاتِ الشَّقَاءِ جُمُودُ الْعَيْنِ وَقَسْوَةُ الْقَلْب. [المحاسن، ج2، ص504]
[1]. الآداب المعنوية للصلاة، الطريق إلى العرفان، بيت الكاتب، الطبعة الأولى، 2025، ص38.
[2]. الكافي، ج4، ص72.
[3]. الآداب المعنوية للصلاة، الطريق إلى العرفان، بيت الكاتب، الطبعة الأولى، 2025، ص 48.
[4]. الآداب المعنوية للصلاة، الطريق إلى العرفان، بيت الكاتب، الطبعة الأولى، 2025، ص 57-58
الشيخ محمد صنقور
الشيخ حسن المصطفوي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
محمود حيدر
السيد عباس نور الدين
السيد محمد حسين الطهراني
عدنان الحاجي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ علي رضا بناهيان
السيد عبد الحسين دستغيب
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ناجي حرابة
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
معنى:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ..} وسبب النزول
معنى (قوت) في القرآن الكريم
شبهة افتراق الثقلين (1)
فصيلة الدّم قد تؤثّر على خطر الإصابة بالسّكتة الدّماغيّة المبكرة
وحيانيّة الفلسفة في الحكمة المتعالية (3)
دور العبادة وأسرارها الكبرى
(غيوم خارج الأفق)، أمسية شعريّة لنادي صوت المجاز
مَن أحبّ شيئًا لهج بذكره
(المهدوية، جدليّة الإيمان والمواجهة في الفكر العالميّ والضّمير الإنسانيّ) جديد الكاتب مجتبى السادة
وحيانيّة الفلسفة في الحكمة المتعالية (2)