علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

رسالة في التوحيد (2)

مقالة ملحقة برسالة التوحيد وفيها فصول

 

بسمه تعالى مقالة ملحقة بالرسالة نبيّن فيها أن ما ندب إليه دين الإسلام المقدس آخر درجة من التوحيد ونبيّن فيها ثمرة ذلك في فصول ثلاثة ليعلم أن التوحيد حيث أن له إضافة إلى ما وحد فيه يختلف باختلاف المضاف إليه والمتصور من ذلك ثلاثة الذات والاسم وهو الذات مأخوذًا بوصف والفعل فالتوحيد أيضًا ثلاث، توحيد ذاتي وتوحيد أسمائي وتوحيد أفعالي، أي أن كل شيء قائم الذات وقائم الاسم وقائم الفعل به سبحانه.

 

[فصل 1 التوحيد الذاتي]

 

قد عرفت أن مقتضى البرهان المذكور في الفصل الثالث ارتفاع كل تعين مفهومي وتحديد مصداقي عن الذات وأنحاء كل تميز هناك حتى هذا الحكم بعينه. ومن هنا يظهر أن استعمال لفظ المقام والمرتبة ونحوهما هناك مجاز من باب ضيق التعبير.

 

ومن هنا يظهر أن التوحيد الذاتي بمعنى معرفة الذات بما هو ذات مستحيل فإن المعرفة نسبة بين العارف والمعروف وقد عرفت أن النسب ساقطة هناك وكل ما تعلق من المعرفة به فإنما بالاسم دون الذات ولا يحيطون به علمًا وإليه يرجع ما ذكروا أن المعرفة على قدر العارف، مثال ذلك الاعتراف من البحر فإن القدح مثلاً لا يريد إلّا البحر لكن الذي يأخذه على قدر سعته.

 

ويظهر أيضًا أنه خارج عن حيطة البيان أيضًا. ومن هنا يتبين أن التوحيد الذاتي آخر درجات التوحيد فإن كمال التوحيد بحسب إطلاق الموحد فيه وإرساله وهو هاهنا كل تعين حقيقي أو اعتباري حتى نفس التوحيد قال سبحانه خطابًا لنبيه: (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى)

 

[فصل 2 في أن أكمل مراتب التوحيد مختص بالشريعة]

 

قد عرفت أن مقتضى البرهان المذكور في الفصل الثاني من الرسالة أنّ الله عزّ اسمه ذات مستجمع لجميع صفات الكمال منفي عنه جميع صفات النقص وأن جميع صفاته عين ذاته وهذا هو الموروث عن الشرائع السابقة المندوب إليه بدعوة المرسلين والأنبياء الماضين (عليهم السّلام) وهو الذي يظهر من تعاليم الحكماء المتألهين من حكماء مصر واليونان والفرس وغيرهم وهو الذي شرحه الأعاظم من فلاسفة الإسلام مثل المعلم الثاني أبي نصر ورئيس العقلاء الشيخ أبي علي وعليه صدر المتألهين في كتبه وأسس أن الوجود حقيقة واحدة مشككة ذات مراتب مختلفة في الشدة والضعف وأن أضعفها الهيولى الأولى وأقواها وأشدها الوجود غير المتناهي قوة وكمالا وهو المرتبة الواجبية، وأن جميع المراتب موجودة غير أنها بالنسبة إلى المرتبة الواجبية وجودات رابطة غير مستقلة في نفسها لا يحكم عليها وبها مستهلكة تحت لمعان نوره وإشراق بهائه.

 

وقد ظهر مما تقدم أن إثبات أكمل مراتب توحيد الحق سبحانه هو الذي اختصت به شريعة الإسلام المقدسة وهذا هو المقام المحمدي الذي اختص به محمد والطاهرون من آله صلّى الله عليهم والأولياء من أمته على نحو الوراثة.

 

[فصل 3 في أن التوحيد الذاتي مشهود بشهود فطري]

 

والذي ذكرناه من التوحيد الذاتي هو المشهود بالشهود التام الساذج الموجود فإن الإنسان بحسب أصل فطرته يدرك بذاته وجوده وإن كل تعين فهو عن إطلاق وإرسال إذ شهود المتعين لا يختلف عن شهود المطلق. ويشاهد أيضًا أن كل تعين في نفسه وغيره فهو قائم الذات بالإطلاق فمطلق التعين قائم الذات بالإطلاق التام.

 

ويجد أيضًا من نفسه لزوم الخضوع والكدح من تعينه لإطلاقه وحسن الحسن وقبح القبيح وإن التكليف محتاج إلى البيان وهذه المعاني الثلاثة هي التوحيد الذاتي والولاية المطلقة والنبوة العامة وهذه الشريعة الإسلامية هي القائمة على هذه الأمور بتمامها وكمالها قال الله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ).

 

وفي التوحيد مسندًا عن العلاء بن الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال: التوحيد.

 

وفي تفسير علي بن إبراهيم مسندًا عن الرضا عن أبيه عن جدّه محمد بن علي بن الحسين (عليه السّلا ) في قوله تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال: هو لا إله إلّا اللّه محمد رسول الله علي أمير المؤمنين إلى هاهنا التوحيد.

 

وقال رسول الله (صلى اللّه عليه وآله): بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وقال تعالى: (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ). والآثار كثيرة في أن تشريع الشرائع يحوم حول الأمور الثلاثة. وقد أنتج استعمال الفطرة الساذجة في هذه الشريعة المقدسة في كل من مرتبتي الملكات والأفعال نتيجته عجيبة لم يسبقها إليها شيء من الشرائع السالفة.

 

أما في مرتبة الملكات فالملكة علم والإنسان الكامل لا يرى إلّا الحق سبحانه والإنسان المستكمل لا ينبغي أن يتوجه إلى غير الحق سبحانه فلا يبقى موضوع للأخلاق الرذيلة كالعجب والكبر والرياء والسمعة والجبن والبخل وحب الجاه والركون إلى الدنيا وغير ذلك فتقع الأخلاق الفاضلة حينئذ للّه وللّه فافهم ذلك.

 

ولعمري كم من الفرق بين أن يزيل الإنسان رذيلة الجبن مثلاً عن نفسه تارة بأن لا يتوجه إلى غير الحق سبحانه فلا شيء حتى يخاف منه وتارة بأن يتكل على الله في دفع المكروه المخوف عنه كما في ظاهر الشرائع.

 

وتارة بأن يعتقد أن وقوع المكروه المخوف عنه أمر ممكن مساوي الطرفين والخوف والجبن بترجيح جانب الوجود ترجيح بلا مرجح وهو قبيح أو أن الجبن رذيلة عند الناس لا يقع الثناء عليه كما يقوله الحكيم الأخلاقي وعلى ذلك فقس ومع ذلك فقد استعملت الشريعة المقدسة في تعليمه جميع الوجوه.

 

وإلى نحو هذا المعنى يشير ما في تفسير القمي في حديث المعراج فقال رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله): يا ربّ أعطيت أنبياءك فضائل فأعطني، فقال الله: وقد أعطيتك فيما أعطيتك كلمتين من تحت عرشي لا حول ولا قوة إلّا بالله ولا منجى منك إلّا إليك.

 

وأما في رتبة الأفعال فقد قصرت الإباحة في ضروريات الحياة على ما تقتضيه الفطرة ثم حاصر ذلك بالتوجيه إلى الله عزّ وجلّ في صغير الأفعال وكبيرها ثم طرد استعمال ذلك في جميع جزئيات أطراف الحياة من الأمكنة والأزمنة والصحة والمرض والغنى والفقر والموت والحياة وسائر الحالات وجميع الأفعال فصارت شريعة حافظة للتوحيد على وحدته فهذه الكثرة وحافظة لهذه الكثرة على كثرتها في التوحيد فاغتنم فهذه لعمر الله نعمة لا توزن بالسبع الشداد والأرض ذات المهاد والجبال الأوتاد.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد