علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

رسالة الإنسان قبل الدّنيا (1)

هذه رسالة الإنسان قبل الدنيا نشير منها إلى ما جرى على الإنسان قبل هبوطه ووقوعه في ظرف الحياة الدنيا على ما دبّره العليم القدير على ما ينتجه البرهان ويستفاد من ظواهر الكتاب والسنة والله المعين.

 

[فصل 1 في أن الإنسان بجميع خصوصيات ذاته وصفاته وأفعاله]

 

قد تبين بالبرهان في الفلسفة الأولى أن العليّة تقتضي قيام المعلول في وجوده وكمالاته الأولية والثانوية بالعلة وإن ذلك كلّه من تنزلات العلة دون النواقص والجهات العدمية.

 

وأيضًا إن عالم المادة مسبوق الوجود بعالم آخر غير متعلق بالمادة فيه أحكام المادة وهو علّته وبعالم آخر مجرد عن المادة وأحكامها هو علّة علته ويسميان بعالمي المثال والعقل وعالمي البرزخ والروح.

 

ويستنتج من ذلك أن الإنسان بجميع خصوصيات ذاته وصفاته وأفعاله موجود في عالم المثال من غير تحقق أوصافه الرذيلة وأفعاله السيئة ولوازمه الناقصة وجهاته العدمية فهو كان موجودًا هناك في أهنأ عيش وأقر عين في زمرة الطاهرين وصفّ الملائكة المقدسين مبتهجًا بما يشاهده من نور ربّه ونورانية ذاته وتشعشع أفقه ملتذًّا بمرافقة الأبرار ومسامرة الأخيار لا يمسّه فيها تعب ولا لغوب ولا يتكدر بكدورات النواقص والعيوب لا حجاب بينه وبين ما يشتهيه ولا ألم ولا ملال يعتريه.

 

[فصل 2 في الدلائل النقلية من الكتاب والسنّة على ما مر]

 

وظواهر الكتاب والسنة تدل على ما مرّ قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ، ففرق سبحانه بين الخلق والأمر فعلمنا أن الخلق غير الأمر بوجه وليس الأمر مختصًّا بآثار أعيان الموجودات حتى تختص الأعيان بالخلق وآثار الأعيان بالأمر لقوله سبحانه: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، فنسب سبحانه الروح وهو من الأعيان إلى الأمر، وقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، أفاد أنّ أمره هو إيجاده بكلمة كن سواء كان عينًا أو أثرَ عين وحيث ليس هناك إلّا وجود الشيء الذي هو نفس الشيء تبين في أن كلّ شيء أمرًا إلهيًّا.

 

ثم قال سبحانه: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ، وقال: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ، وغير ذلك من الآيات المفيدة أن الخلق بالتدريج. وقد قال سبحانه: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، وقال: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، وقال: ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ، فأفاد عدم التدريج في الأمر.

 

تبين بمجموع الآيات ،ن الأمر أمر غير تدريجي بخلاف الخلق وإن كان الخلق ربّما استعمل في مورد الأمر أيضًا. وبالجملة ففيما يتكون بالتدريج وهو مجموع الموجودات الجسمانية وآثارها وجهان في الموجود الفائض من الحق سبحانه وجه أمري غير تدريجي ووجه خلقي تدريجي وهو الذي يفيده لفظ الخلق من معنى الجمع بعد التفرقة.

 

وقد أفاد قوله سبحانه: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ، أن الأمر سابق على الخلق وأن الخلق يتبعه ويتفرع عليه وهو الذي يفيده قوله سبحانه: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، فعمل الملائكة وهم المتوسطون في الحوادث بواسطة الأمر.

 

فتحصل من الجميع أن فوق عالم الأجسام وفيه نظام التدريج عالـمًا آخر يشتمل على نظام موجودات غير تدريجية أي غير زمانية يتفرع كل موجود زماني من مظروفات نظام التدريج على ما هنالك من الموجودات الأمرية وهي محيطة بها موجودة معها قائمة عليها كما يفيده (فالتدبير وهو الإتيان بالأمر دبر الأمر وعقيبه يصدر من العرش أوّلاً ثم يتنزل الأمر من سماء إلى سماء وقد أوحى إلى كل سماء ما يختص بها من الأمر فإن الأمر كلمته سبحانه فإلقائه إلى شيء وحي منه إليه ولا يزال يتنزل سماء سماء حتى ينتهي إلى الأرض ثم يأخذ في العروج فهذا هو المتحصل من الآيات) قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وقوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ، وقوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، إلى أن قال تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، وقوله سبحانه: خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ.

 

وهي مع ذلك تفيد أن الأمر في تنزله ذو مراتب فإنّه سبحانه أخبر عن أن التنزل بينهن، فللتنزل نسبة إلى كل واحدة منها لوقوعه من عال إلى سافل حتى ينتهي إلى آخرها فيتجاوزها إلى الأرض وهو قوله سبحانه: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ، وهذه حال الأمر بعد تقديره بالقدر والمقادير ومحدوديته بالحدود والنهايات كما قال سبحانه: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً، وهناك وجود أمري غير محدود ولا مقدر ينبئ عنه قوله سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، حيث أفاد أن لكل شيء من الأشياء وجودًا مخزونًا عنده سبحانه، وأن تنزله إنّما هو بقدر معلوم والآية حيث تفيد أن التنزل يلازم التقدير بالمقدار أفادت أن الخزائن التي من كلّ شيء عنده سبحانه وجودات غير محدودة ولا مقدرة فهي من عالم الأمر قبل الخلق.

 

وحيث عبّر سبحانه بلفظ الجميع المشعر بالكثرة فلا بد أن يكون الامتياز بين أفرادها بشدة الوجود وضعفه وهو المراتب دون الامتياز الفردي بالمشخصات مثل الأفراد من نوع واحد وإلّا وقع الحد والقدر وقد أنبأ سبحانه أن لا قدر قبل التنزل ففي هذا القسم من الموجود الأمري الغير المحدود أيضًا مراتب واقعة.

 

وليس التنزل عن هناك كيفما كان بالتجافي وتخلية المكان السابق بالنزول إلى اللاحق لقوله سبحانه: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ، وهذه الموجودات غير المحدودة حيث لا حدّ لها ولا بينها فيها موجودة جميعًا بوجود واحد على كثرتها ومشتملة على جم الكمالات التي في عالمها ولا خبر ولا أثر هناك عن الإعدام والنواقص التي تفيدها المادة والإمكان أو الجد والفقدان.

 

ولا تزال تتنزل عن مرتبة إلى مرتبة حتى تشرف على عالم الأجسام وهي في جميع مراحلها مشتملة على جمل الكمالات مبراة عن النواقص غير أنّها في كل مرتبة بحسب ما يقتضيه حال المرتبة من قوة الموجود وضعفه ولا حجاب ولا غيبوبة بل أشعة الكل واقعة من الكل على الكل ومنعكسة من الكل إلى الكل فهي أنوار طاهرة ولذلك وصف سبحانه الروح الذي هو من عالم الأمر بالطهارة والقدس فقال: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وقال: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ، وحكى سبحانه ذلك عن الملائكة فقال سبحانه: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، أي نظهر قدسك وطهارتك عن النواقص بذواتنا وأفعالنا حيث إن ذواتنا بأمرك وأفعال ذواتنا بأمرك كما يومي إلى جميع المرحلتين قوله سبحانه: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، فالآية الثانية فرع للأولى فهو إكرام ذاتي لهم هذا وليس في أعمالهم إلّا حيثية الأمر إذ هو المصحح للثناء عليهم وإكرامهم منه سبحانه، وإلّا ففي كل فعل من كل فاعل أمر منه سبحانه كما يستفاد من قوله سبحانه: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وقوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فتخصيصه سبحانه عملهم بالذكر بأنّه بأمره سبحانه ليس إلّا لأن عملهم لا جهة فيه إلّا جهة الأمر وكذلك ذواتهم ويشير إليه آيات أخر كقوله تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ، وقوله: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وقوله: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً، إلى غير ذلك من الآيات.

 

وأيضًا فإن الملائكة لم تقل: أتجعل فيها من يفسد . . . الخ ولم يستفد صدور هذه المعاصي إلّا بالاستفادة من قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، إن الخلافة وهي قيام الشيء مقام آخر ونيابته عنه تقتضي اتصاف الخليفة بأوصاف الحق سبحانه وهي محمودة مقدسة لا يصح في قباله دعواهم: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، فلم يبق للاستناد إلّا الجعل في الأرض فمن هنا فهموا أنه سيؤثر في أفعاله وسيتلون بكدورة الأرض وظلمات الطين ذاته ولذلك عبّروا عن الخليفة بالموصول والصلة فقالوا: من يفسد فيها ويسفك الدماء وهو الاسم فيكون مقابلته بدعواهم: نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ مقابلة بالاسم فهم طاهرون مقدسون في أسمائهم أي ذواتهم من حيث الوصف وهو المطلوب فافهم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد