علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

الذكاء الاصطناعي في عين الحكمة الفلسفية

كيف سيكون عليه الحال حين تسائلُ الفلسفةُ العلمَ في أواخر ما بلغه العقل العلمي من عظيم الذكاء وعلياء الفطنة؟

 

ربما يأتي الجواب أدنى إلى خطبٍ جلل، لو أدركنا ما للفلسفة من حجة على العلم، وأساساً من بعد أن تمكنت غزوة العلم الكبرى من إقصاء التأمل الميتافيزيقي، واستنزال الفلسفة كعلمٍ محض إلى أرض الفينومينولوجيا الفسيحة؟

 

بإزاء ما سمي الذكاء الصناعي الخارق سيكشف الديالكتيك الداخلي الذي أطلقته الفيزياء الحديثة حقائق غابت عن العقل الفلسفي الأول وتداعياته الحديثة. قد تضع هذه الحقائق الفلسفةَ أمام حرجٍ عظيم، مؤداه الخشية من تقويض أحد أبرز أركانها الانطولوجية، لجهة قولها باستحالة التعرُّف على الشيء في ذاته.

 

ولأن الذكاء الاصطناعي سليلُ السيرورة المنطقية لما سمي “الحقيقة العلمية”، فإنه - في ماهيته وهويته وظهوره، وتبعاً للامتداد الَّلامتناهي لنشاط العقل الإنساني - يعدُّ طفرة طبيعية مما يمكن أن يفلح به العقل حين يمضي بعيداً في استكشاف الكون وحقائق الموجودات. وهنا لست أخفي مما استشعِرهُ بين حين وحين، من أن الفيزياء الحديثة ربما جاوزت نباهة الفلسفة حين أخرجت بعضاً يسيراً مما توصلت إليه في التعرف على ما يشير إلى حقيقة ذلك المكنون الذي يسمى ذات الشيء.

 

تبيِّن الوقائع أن الفلسفة واصلت - منذ أرسطو - الفصل بين “النومين” و”الفينومين” زاعمة أن الأول يتأبَّى على الفهم ويستحيل العلم به على مدركات العقل.. في حين أن الفيزياء الحديثة بذكائها الفائق، أحكمت عملها وفقاً لوحدة أشياء الكون، ورسمت دربتها على واحدية لا انفصام لها بين الشيء المحتجب بذاته والشيء البادي للعيان. بل طفقت تبتني نظامها المعرفي على تناغم الأشياء في ظهورها وبطونها. ثم لتقرِّر بعد التجربة والملاحظة أن كل شيء من أشياء الكون يسري من نفسه الباطنة إلى نفسه الظاهرة وبالعكس بلا انقطاع وانفصال.

 

إلى ذلك، لم يكن للذكاء الاصطناعي أن يظهر على نصاب الدهشة، لولا أن سدَّده العقل البشري الأصيل بطائفة من الفرضيات جاوزت المألوف في عالم التأملات الفيزيائية.

 

يقرر الفيزيائيون تبعاً لوحدة الموجودات، أن احتمال التشكل العشوائي لمادة الكون ضعيف جداً. ولقد توصلوا بنتيجة بحوث كثيرة إلى استنتاج أن: الكون المادي، الفراغ، الزمن، الحياة، والكائنات العاقلة على الأرض والكواكب الأخرى كلها من صنع عقل فائق مدبَّر. ما يعني بحسب توصلات الفيزياء الحديثة أنها مجتمعة على نظام حركة وحياة واحدة، وأن الكون مبرمج قبل نشوئه لكي تظهر فيه مواد حية، وكائنات عاقلة.

 

فالتقصيات العملية والنظرية الجديدة للعلماء تعطي أساسيات وضع الرواية العلمية التالية لخلق العالم. كذلك يؤكد العلماء وجود نظرية فيزيائية جديدة، وضعت نتيجة لتطور تصورات أ. آينشتاين، التي ظهر فيها مستوى معين من الحقيقة وتمتلك كل علامات الألوهية، وهي النظرية التي يطلق عليها “العدم المطلق”. والعدم المطلق الذي يقصدونه هو نفسه الشيء في ذاته الذي منه يبدأ كل شيء…

 

وهذا “العدم” لا يكتفي بخلق المادة وإنما أيضاً وأساساً يضع لها مخططات ومقاصد وغايات”. وحسب الفيزيائي – النظري الأميركي المعروف إي. ميرتون، أن المطلق (كما العدم المطلق) باعتباره محيطاً لا محدوداً وأبدياً للطاقة، هو الذي يعطي الحياة لكل ما هو موجود. ثم يذهب أبعد من ذلك ليقول أن هذا الَّلامحدود الأبدي هو الذي منه تولد الأفكار ومنه يغتذي العقل بطاقة الاستكشاف تتولد عنه. وبقطع النظر ماهية هذا المطلق الممتلئة بنعمة العقل، تبقى مطلقيته محدودة بمبدئه، وبوصفه خلقاً أول يحوي في ثناياه المخلوقات جميعاً.

 

لا دهشة إذن، إلا مما ينطوي عليه العقل الصانع من امتدادات هائلة في الكشف وسبر غور المجهولات. هنالك، يكمن السر الذي منه سيبلغ الذكاء المصنوع مكانة لا قبل له بها تحت عناية العقل الأصيل ومواهبه الَّلامتناهية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد