المترجم: عدنان أحمد الحاجي
السلوك الإجرامي (1) قد يكون علامة مبكرة على الإصابة بالخرف (2)، هذا ما وجدته دراسة اعتمدت التحليل التلوي واسع النطاق.
في حالة الخرف الجبهي الصدغي (FTD)، يبدأ الفص الصدغي من الدماغ (منطقة مهمة للتحكم في الانفعالات والاندفاعات والسلوك الاجتماعي) بالضمور. وحين تتضرر هذه المنطقة من الدماغ، يفقد المصاب بعض القيود (الضوابط) الطبيعية على سلوكه، ما من شأنه أن يُصعّب عليه التحكم في اندفاعاته، ويؤدي به إلى ارتكاب تصرفات عنفية، أو كسر للقواعد والأعراف الاجتماعية، أو حتى ارتكاب جرائم - غالبًا ما تكون ناجمة عن سوء تقدير وعدم معرفة كاملة بالعواقب. إذن، تضرر الفص الصدغي الناجم عن الخرف يحد من القدرة على ضبط النفس، لذا قد يتصرف المصاب بطريقة تبدو إجرامية أو غير لائقة، حتى لو لم يكن يتصرف بمثل هذه التصرفات قبل إصابته بالخرف.
الحاجة إلى الوعي والحساسية:
وهذا يتطلب إدراك وفهم وتقدير حالات المصابين والقدرة على فهم مشاعرهم والتفاعل معهم بطريقة مناسبة ومحترمة تجنبًا للإساءة أو الامتعاض أو الوصم بالإجرام. ولذا من الضروري التعرف على العلامات المبكرة المحتملة للخرف وتعديل أو تغيير الأطر القانونية الجارية لتلبية متطلبات الوضع القائم لتجنب وصم المصابين بالإجرام والتأكُّد من وجود علاج مناسب لهم.
هذا يعني أن المجتمع - بما فيه العائلات والأطباء والنظام القانوني - بحاجة إلى فهم أن السلوك غير المألوف، أو حتى السلوك الإجرامي، قد يكون أحيانًا من الأعراض المبكرة للخرف. فبدلًا من الحكم المسبق والتسرع في وصف هؤلاء المصابين بـ "الإجرام"، ينبغي تقديم الرعاية والدعم وتوفير العلاج المناسب لهم، كما ينبغي تعديل الإجراءات القانونية المناسبة لحالاتهم. قد لا يكون السلوك غير اللائق دائمًا متعمدًا، بل قد يكون أحيانًا علامة مبكرة على الإصابة بالخرف. وعليه يجب إدراك أن هذه التصرفات ليست دائمًا جرائم مقصودة، وإنما ينبغي مراعاة الأسباب التي وراء هذه التصرفات وعدم التعامل مع كل حالة على أنها مخالفة متعمدة.
امرأة في منتصف الخمسينيات من عمرها لا تكاد تذكر اسمها متهمة بارتكاب مخالفات مرورية كثيرة، وهي غير متزنة تمامًا ولا تعرف كيف تتصرف - هل ينبغي إحالة مثل هذه القضايا إلى المحكمة؟ وكيف تتصرف الدولة مع مرتكبي أعمال عنفية دون قصد أو تعمد، ولكن بسبب الخرف؟ تتبادر إلى الذهن هذه الأسئلة عندما نسمع بهذه الأمثلة من الممارسات السريرية اليومية من خلال تعامل الممارسين الصحيين مع هؤلاء المرضى. قد تؤثر الأمراض العصبية التنكسية (6) في الكثير من وظائف الدماغ (7، 8)، بدءًا من ضعف الذاكرة في مرض الزهايمر وصولًا إلى السلوكيات التي تبدو أنها أفعال اجرامية، كما هو الحال في المتغير السلوكي في المصابين بالخرف الجبهي الصدغي (4) behavioral variant frontotemporal dementia، وصولًا إلى الوظيفة الحسية الحركية [أي الأنشطة المتكاملة للأجهزة الحسية والحركية التي تعمل معًا لإنتاج حركة (9)] في مرض باركنسون (10).
وهذا يعني أنه لو ارتكب المصابون بالخرف مخالفات قانونية دون إدراك منهم لتلك المخالفات، ينبغي أن نسأل ما إذا كانوا يستحقون القاب باعتبارهم مجرمين أو معاملتهم بالرعاية الطبية باعتبارهم مرضى.
من أبرز تبعات هذه التغيرات في وظائف الدماغ أن المصابين بهذه الأمراض التنكسية قد يقومون بسلوكيات تبدو إجرامية، مثل التحرش، والمخالفات المرورية، والسرقة، أو حتى سلوكيات تُلحق الأذى بآخرين، حتى مع ظهور أول أعراض المرض. إذا انتهك شخص أعرافًا اجتماعية أو قانونية بسبب انحراف في السلوك، فقد لا تكون هذه الأفعال بالضرورة مقصودة دائمًا؛ بل حدثت لأن الخرف يؤثر في السلوك ويغير بعض السمات الشخصية إلى سمات غير محابية للمجتمع، كما يؤدي إلى ضعف في القدرة على التفكير. بيد أن هذه الحوادث قد تتسبب في مشكلات خطيرة لعائلات المصابين، وقد تؤدي حتى إلى مشكلات قانونية وقد تنتهي بمقاضات المرتكب قانونيًّا.
التنكس الإدراكي يؤدي إلى مشكلات سلوكية تتميز بالاندفاعية أو العدوانية، أو عدم فهم مشاعر الآخرين وعدم التفاعل معهم وجدانيًّا، الخرف الجبهي الصدغي قد يتسبب في فقدان التثبيط (11) وينتهي بعدم القدرة ضبط النفس أو التحكم في القرارت، ما يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير مدروسة أو غير حكيمة أو قصيرة النظر، وأخيرًا إلى ارتكاب انتهاكات قانونية.
تناول كل من ماتياس شروتر Matthias Schroeter ولينا زابو Lena Szabo من معهد ماكس بلانك للأبحاث الطبية (MPI CBS) هذه المشكلة في تحليل تلوي واسع النطاق (12) شمل 14 دراسة ضمت 236,360 شخصًا من دول مختلفة (الولايات المتحدة الأمريكية، والسويد وفنلندا، وألمانيا واليابان).
كشفت المراجعة المنهجية للأدبيات العلمية أن احتمالية معدل انتشار السلوكيات الإجرامية أعلى في المراحل المبكرة من المرض مقارنةً بالعدد الإجمالي لأفراد المجموعة الخاضعة للدراسة، ولكنه ينخفض بعد ذلك إلى ما دون المعدل في المجموعة.
لذلك، السلوك الإجرامي المرتكب في منتصف العمر لأول مرة قد يكون مؤشرًا على حالات خرف جديدة في المجموعة الخاضعة للدراسة، ما يتطلب تشخيصً وعلاجًا مبكرًا.
قال ماتياس شروتر، المؤلف الرئيس للدراسة (12): "تمحورت رغبتنا حول زيادة الوعي بهذه المشكلة من عمل هذا التحليل التلوي، وهو أول تحليل ممنهج وكمي يبحث في احتمالية ارتكاب سلوكيات إجرامية من قبل المصابين بمتلازمة الخرف. نأمل أن يساعد ذلك في معرفة التبعات المحتملة لهذه الأمراض بشكل أفضل، ومعرفة الأسباب الممكنة، وتشجيع الجهود والمساعي المتعددة التخصصات لتطوير استراتيجيات للتعامل مع هذه التحديات".
أثبت فريق البحث أن معدل انتشار احتمالية ارتكاب سلوكيات إجرامية كان أعلى في المتغير السلوكي في الخرف الجبهي الصدغي (أكثر من 50%)، يليه المتغير الدلالي في الحبسة المترقية الأولية (13) (عدم القدرة على الكلام) (40%)، ولكنه منخفض نسبيًّا في الخرف الوعائي (14) ومرض هنتنغتون (15%) (15)، ومرض الزهايمر (10%)، وأقل في متلازمة باركنسون (أقل من 10%).
يُرجّح أن يكون السبب وراء احتمالية ارتكاب سلوك إجرامي من قبل المصابين بالخرف الجبهي الصدغي هو المرض العصبي التنكسي نفسه. فقد أظهر معظم المرضى احتمالية ارتكابهم لسلوك إجرامي لأول مرة في حياتهم، مع العلم أنه لم تكن لديهم أي سجلات سابقة لارتكاب أنشطة إجرامية.
يبدو أن معدل انتشار الاصابة بالخرف الجبهي الصدغي ومرض الزهايمر أكثر في المراحل المبكرة من المرض مقارنةً بالعدد الإجمالي لأفراد مجموعة الدراسة، ويفترض أن ذلك يحدث في مراحل الإصابة بمثل ضعف الإدراك البسيط (16)، ولكن يتراجع بعد ذلك، ما يؤدي في النهاية إلى انخفاض في معدل انتشار الخرف بعد التشخيص مقارنةً بالعدد الإجمالي لأفراد المجموعة الخاضعة للدراسة. كما وجدنا أن احتمالية انتشار ارتكاب السلوك الإجرامي لدى الرجال أعلى مما لدى النساء المصابات بحالة الخرف. بعد التشخيص، أصبحت احتمالية انتشار ارتكاب الرجال لسلوك إجرامي أعلى بأربع مرات من النساء المصابات بالخرف الجبهي الصدغي، وأعلى بسبع مرات في حالات الإصابة بمرض الزهايمر.
في دراسة ثانية نشرت مؤخرًا (17)، تعرف فريق البحث أيضًا على التغيرات في الوظائف الدماغية المرتبطة باحتمالية معدل انتشار ارتكاب السلوك الإجرامي في حالات الإصابة بالخرف الجبهي الصدغي (4). وُجد لدى الذين ظهر عليهم سلوك إجرامي ضمور كبير في منطقة الفص الصدغي في الدماغ، ما يشير إلى أن السلوك الإجرامي قد يكون ناجمًا مما يُعرف بفقدان التثبيط (11) (عدم وجود ضوابط وموانع تمنع الشخص من القيام بما يرغب، ما من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض في القدرة على تنظيم الشخص لسلوكه ودوافعه وانفعالاته).
بالرغم من أن هذه النتائج مثيرة للاهتمام، إلا أنه لا ينبغي المبالغة في تقديرها. على المرء أن يقف في وجه أي وصم للمصابين بالخرف بالإجرام. تجدر الإشارة إلى أن معظم ما يبدو أنها جرائم كانت بسيطة، مثل السلوك غير اللائق، والمخالفات المرورية، والسرقة، وإتلاف الممتلكات، والعنف الجسدي، أو العدوان ضد الآخرين. لذا، تُعد الحساسية التي يثيرها هذا الموضوع علامات مبكرة محتملة على الخرف، ولذا يعد التشخيص والعلاج المبكر أمرًا بالغ الأهمية، يجب مناقشة التعديلات التي قد تجرى على النظام القانوني، مثل زيادة الوعي بالجرائم الناجمة عن هذه الأمراض، ومراعاة هذه الأمراض في العقوبات القانونية والسجون ذات العلاقة، كما يخلص ماتياس شروتر.
الخلاصة
تُثبت النتائج أن احتمالية ارتكاب السلوك الإجرامي يُلاحظ بكثرة في حالات الإصابة بالخرف والأمراض العصبية التنكسية الأخرى، وخاصةً في حالة الخرف الجبهي الصدغي، أي المتغير السلوكي في الخرف الجبهي الصدغي، والمتغير الدلالي في الحبسة الأولية، وهي نتيجة متسقة في العديد من الدول والثقافات. وبناءً على ذلك، فإن احتمالية ارتكاب سلوك إجرامي أول مرة في منتصف العمر قد يكون مؤشرًا على الإصابة بالخرف، وخاصةً الخرف الجبهي الصدغي. ويجب أن يؤدي هذا المؤشر إلى التبكير في التشخيص والعلاج.
هناك حاجة إلى دراسات دولية مستقبلية واسعة النطاق تطبق أساليب منهجية ومتجانسة واستبانات موحدة في تقييم احتمالية ارتكاب أو الانخراط في سلوك إجرامي من قبل المصابين متلازمات الخرف المختلفة الأخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- "السلوك الإجرامي هو أي انتهاك يعاقب عليه القانون للأنظمة أو القواعد القانونية والاجتماعية والعرفية في أي مجتمع، ينتج عنه ضرر على هذه المجتمع أو أحد أفراده أو مرتكب السلوك الاجرامي نفسه". مقتبس من نص ورد على هذا العنوان:
https://jfslt.journals.ekb.eg/article_308816_6f3e4eded7082b684eaa88074042e507.pdf
2- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/خرف
3- https://ar.wikipedia.org/wiki/انتشار_(وبائيات)
4- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/الخرف_الجبهي_الصدغي
5- https://ar.wikipedia.org/wiki/مرض_آلزهايمر
6- https://ar.wikipedia.org/wiki/مرض_تنكسي
7- http://https://altibbi.com/مصطلحات-طبية/علم-التشريح/مخ
8- https://www.mayoclinic.org/ar/functions-of-the-brain/img-20008699
9- http://https://www.sciencedirect.com/topics/medicine-and-dentistry/sensorimotor-function
10- https://ar.wikipedia.org/wiki/مرض_باركنسون
11- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/إزالة_التثبيط
12- https://www.nature.com/articles/s41398-025-03523-z
13- https://ar.wikipedia.org/wiki/حبسة_مترقية_أولية
14- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/خرف_وعائي
15- https://ar.wikipedia.org/wiki/داء_هنتنغتون
16- https://ar.wikipedia.org/wiki/ضعف_إدراكي_بسيط
17- https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/40785170/
المصدر الرئيس
الشيخ محمد هادي معرفة
الشيخ حسن المصطفوي
السيد عباس نور الدين
الشهيد مرتضى مطهري
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ باقر القرشي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الفيض الكاشاني
حسين حسن آل جامع
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
قول اليهود: يد اللّه مغلولة!
معنى كلمة (سقط) في القرآن الكريم
ما معنى أن تكون كمالات الرسول اختصاصية؟
الإمام الصادق (ع): ثورة العلم ضدّ الظّلم
الإمام الصادق (ع) أستاذ الكلّ
زكي السالم: (احذر لقب البحتري الصّغير أو الحطيئة)
الرسول الأعظم: فاتحة الوجود
استكشاف السلوكيات الإجرامية عند المصابين بالخرف
علم الإمام الصّادق (ع) إلهامي
فترة الشّباب في حياة رسول اللّه (ص)