علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

علمه سبحانه بالأشياء قبل إيجادها

إنَّ علمَه سبحانه بالأشياء على قسمين: علم قبل الإِيجاد، وعلم بعده. والأول هو الذي نرتئيه وهو من أهم المسائل الكلاميَّة، وإليك الدليل عليه:

 

العلم بالسببيَّة علم بالمسبَّب:

 

إِنَّ العِلْم بالسبب، بما هو سبب، علم بالمسبَّب. والعلم بالعلَّة، بما هي علَّة، علم بوجود المعلول، والمراد من العلم بالعلَّة، العلم بالحيثية التي صارت مبدأً لوجود المعلول وحدوثه. ولتوضيح هذه القاعدة نمثل بالأمثلة التالية.

 

أ ـ إنَّ المنجم العارف بالقوانين الفلكية والمحاسبات الكونية يقف على أنَّ الخسوف أو الكسوف أو ما شاكل ذلك يتحقق في وقت أو وضع خاص. وليس علمه بهذه الطوارئ إلاّ من جهة علمه بالعلة من حيث هي علّة لكذا وكذا.

 

ب ـ إنَّ الطبيب العارف بحالات النَّبض وأنواعه وأحوال القلب وأوضاعه يقدر على التنبؤ بما سيصيب المريض في مستقبل أيامه. وليس هذا العلم إلاّ من جهة علمه بالعلَّة من حيث هي علَّة.

 

ج ـ إنَّ الصيدلي العارف بخصوصية السّم إذا شربه الإِنسان يخبر عن أنَّه سيقضي على حياة الشارب في مدة معينة، أيضاً.

 

إذا عرفت هذه الأمثلة نقول: إنَّ العالَم بأجمعه معلول لوجوده سبحانه و ليس له علَّة إلاّ ذاته سبحانه. فالعِلْم بالذات علم بالحيثية التي هي سبب لتحقق العالم وتكوّنه. وبعبارة أخرى: العِلْمُ بالذات ـ كما عرفت دلائله علم بالحيثية التي صدر منها الكون بأجمعه، والعلم بتلك الحيثية يلازم العلم بالمعلول. وهذا البرهان مبني على مقدمات مسلمة عند الإِلهيين نشير إلى خلاصتها:

 

الأولى ـ إنَّ العالم بجميع أجزائه مستند إليه سبحانه وهو مقتضى التوحيد في الخالقية، وإنَّه لا خالق إلاّ هو.

 

الثانية ـ علّيَّة شيء لشيء عبارة عن كونه مشتملاً على خصوصية تقتضي صدور المعلول عنه وتوجب إيجاباً قطعياً وجود المعلول في الخارج بحيث لولا تلك الخصوصية لما تحقق المعلول. ولأجل ذلك تكون بين الخصوصية القائمة بالعلَّة ووجود المعلول رابطةٌ وصلةٌ خاصةٌ تقتضي وجودَ المعلول، ولولا تلك الخصوصية لكانت نسبةُ المعلول إلى العلَّة، وغيرِها الفاقد لها، متساوية، مع أنه ضروري البطلان.

 

فالخصوصية الموجودة في النار الموجبة للحرارة غير الخصوصية الموجودة في الماء المقتضية للرطوبة.

 

الثالثة ـ إنَّ فاعليته تعالى لِمَا عداه، بنفس ذاته لا بخصوصية طارئة، وجهة زائدة عليها. فهو بنفس ذاته فاعل الكل، كما هو مقتضى بساطة ذاته وغناه عن كل شيء (الخصوصية الزائدة) سواه. فالواجب تبارك وتعالى فاعل بذاته لا بحَيْثِيَّة منضمة إليها.

 

الرابعة ـ إنَّ العِلْم بالجهة المقتضية للشيء، علم بذاك الشيء.

 

فيتحصل أنَّ علمه تعالى بذاته، علم بتلك الخصوصية والجهة. ويترتب عليه لازمه، أعني علمه بالأشياء قضاءً للملازمة.

 

وقد أشار إلى هذا البرهان أعاظم المتكلمين والفلاسفة. قال صدر المتألهين: «إنَّ ذاته سبحانه لما كانت علَّة للأشياء ـ بحسب وجودها ـ والعلم بالعلة يستلزم العلم بمعلولها، فتعقّلها من هذه الجهة لا بُدّ أن يكون على ترتيب صدورها واحداً بعد واحد» (1).

 

وإلى ذلك يشير الحكيم السبزواري في منظومته بقوله:

 

وعالِمٌ بِغَيْرِهِ إِذا اسْتَنَد بالسَّبَبِ العِلْم بما هُوَ السَّبَب ... إليه وهو ذاتَه لقد شَهِد عِلْمٌ بِما مُسَبَّبٌ بِهِ وَجَب(2)

 

الإِحكام و الإِتقان دليل علمِهِ بالمصنوعات:

 

إنَّ لحاظ كل جهاز بسيط أو معقد (كقلم أو عقل الكتروني) يدلنا على أنَّ صانعه عالم بما يسود ذلك الجهاز من القوانين والعلاقات. كما تدل دائرة معارف ضخمة على علم مؤلفيها وجامعيها بما فيها.

 

وبعبارة أخرى: إنَّ وجود المعلول كما يدل على وجود العلة، فخصوصياته تدل على خصوصية في علته، فالعالَم بما أنه مخلوق لله سبحانه يدل ما فيه من بديع الخلق ودقيق التركيب على أنَّ خالقَه عالمٌ بما خلق، عليم بما صنع. فالخصوصيات المكنونة في المخلوق ترشدنا إلى صفات صانعه.

 

وقد وقع هذا البرهان موضع عناية عند المتفكرين. فإِنَّ المصنوع يدلّ من جهة الترتيب الذي في أجزائه أي كون صنع بعضها من أجل بعض، ومن جهة موافقة جميعها للغرض المقصود من ذلك المصنوع، على أنَّه لم يحدث عن فاعل غير عالم بتلك الخصوصيات، بل حدث عن صانع رتب ما قبل الغاية، فيجب أنْ يكون عالماً به. والإنسان إذا نظر إلى بيت وأدرك أنَّ الأساس قد صُنع من أجل الحائط وأنَّ الحائط من أجل السقف، يتبين له أنَّ البيت قد وُجِدَ عن عالِم بصناعة البناء.

 

والحاصل، أنَّ المصنوع بما فيه من إتقان ودقة ونظام بديع ومقادير معينة ومضبوطة يحكي عن أنّ صانِعَه مطّلع على هذه القوانين والرموز، عارف بما يتطلبه ذلك المصنوع من مقادير وأنظمة. ومن هنا يشهد الكون ابتداءً من الذرة الدقيقة وانتهاء إلى المجرة الهائلة، ومن الخلية الصغيرة إلى أكبر نجم، بما يسوده من أنظمة وتخطيطات بالغة الدقة، على أنَّ خالق الكون عالم بكل ما فيه من أسرار وقوانين وأن من المستحيل أن يكون جاهلاً. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل بقوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16].

 

وقال الإِمام أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «عَلِمَ ما يَمْضِي وما مَضَى، مُبْتَدِعُ الخلائِقِ بِعِلْمِه ومُنْشِؤُوها بِحِكْمَتِه» (3). وقال الإِمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام): «سبحان من خَلَقَ الخَلْقَ بِقُدْرتِه، أتقَنَ ما خَلَق بِحِكْمَتِه وَوَضَعَ كُلَّ شيء موضِعَهُ بِعِلْمِه» (4). وإلى هذا الدليل أشار المحقق الطوسي في تجريد الاعتقاد بقوله: «والإِحكامُ دليلُ العِلْم».

 

فإن قُلتَ: قد يصدر من بعض الحيوانات أفعال متقنة في ترتيب مساكنها و معيشتِها، كما في النحل والنمل وكثير من الوحوش والطيور، مع أنها ليست من أولي العلم؟ قلتُ: إنَّ ما ذكرنا من أن الإِتقان في الفعل يدل على علم الفاعل قضيةٌ عقلية غيرُ قابلة للتخصيص، وأما هذه الحيوانات فإن عملها بإِلهام من خالقها كما عليه النصوص القرآنية. قال سبحانه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ - ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68، 69].

 

وما ربما يقال من تفسير هذه الأفعال العجيبة بغرائز الحيوانات، فلا ينافي ما ذكرنا. فإن الغرائز الصَّمَّاء لا تزيد عن كونها مادة عمياء لا تقدر على إيجاد شيء موزون إلاّ إذا كانت هناك قيادة عالية تسوقها إلى ما هو المطلوب منها. وللتفسير مجال آخر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الأسفار ، ج 6 ، ص 275. وراجع في ذلك أيضاً التجريد و شروحه.

2 ـ شرح المنظومة ، قسم الفلسفة ، ص 164.

3 ـ نهج البلاغة ، قسم الحكم ، 191.            

4 ـ بحار الأنوار ج 4 ، ص 65.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد